2023/08/04

قطع النور – اللاهوت - الرقصة الالهية - الفرح ال اتقلب ، ومأساة الإنسان، وانا وانت وسر الثالوث

 



·     بعد تجهيزات عديدة، واختيار القاعة والاغانى وطريقة الرقص والحركات التى ستقوم بها العروس فى عرسها، وجاء الموعد  ودخلت العروس القاعة وسط تهليل وفرحة الجميع، متأهبة لرقصة العمر، رقصة القران والاقتران marriage contract ، متأهبة بفستانها الابيض ممسكة بيد زوجها، كلاهما متجهين لمكان "الرقصة السماوية" حيث يلتحم الجسدان، ويذوب كل منهما فى الاخر،حتى انقطع النور فأفسد ذلك كل أملٍ فى أى فرحة كان يأملها ويتأهب لها الجميع.

·     دعك من مشهد الزفاف الان. ودعنا نعود بخيالنا -أن قدرنا-  الى القديم، حيث لم يكن هناك زمان ولا مكان : اى الازلية - حيث لاينقطع النور- حيث سكنى الاب فى الابن، والابن فى الاب،فى نور لايدنى منه(1تى16:6)

·     لقد فهم اباء الكنيسة "سر الثالوث" لابطريقة جامدة ثابتة، بل فهموه بطريقة النشاط dynamics  والرقصةchoresis، وكان لديهم مصطلح يعبر عن هذه الحركة وهوPerichoresis\ περιχώρησις(للمزيد حول المصطلح راجع مقالنا الجزء الاول والثانى )

·     لنعود إذاً الى تلك الحالة الكائنة فى الثالوث، ذلك النشاط المتبادل، لنعود الى "الرقصة الإلهية"، المتبادلة بين أقانيم الثالوث، فإن كان الانسان هو نتاج لقاء جسدى يُجسد الحُب المتبادل بين الزوجين ، فالخليقة هى نتاج التلاقى –غير المادى – بين أقانيم الثالوث، نعم  نحن نتاج لـ "الرقصة الأزلية" رقصة الحب المتبادل بين الأقانيم الثلاثة،ان محبة   الثالوث هى من أحضرت بنا هُنا.فنحن لم نخلق صدفة، بل خٌلقنا بـ"الحب" لـ"نُحب" و"نتحب" من الثالوث وممن حولنا

·     كنت اتعجب من شخص ينتظرمولوده فيبدأ بتجهيز غرفة له وملابس واحتياجاته، بكل فرح، فكنت اتسأل "لما هذا الحب؟"، "ماسبب هذا الفرح؟"، "هل رأيت مولودك قبل ان يولد لكى ماتحبه؟"، "ولما اصلا تحبه؟"، "وما الدافع  من الاساس لتُنجب به هنا؟" ،   ألم يكن العدم   أفضل له؟؟ لاجواب منطقى سوى "الحب" ، الابوين أحبا ابنهم قبل إنجابه، فكان الميلاد الجسدى لكل الجنس البشرى هو نتاج هذه المحبة المتبادلة المتوهجة، فنحن نتاج "الحب" سواء كان الحب الالهى ، او الحب الارضى، الذى ينتهى على فراش العشق المقدس.

·     لذا  فالخلق  هو نتاج "الرقصة الإلهية" الأزلية، و ما الخلق إلا نتاج الرقصة المتبادلة و الحادثة والدائمة بين/ فى الثالوث، حتى اننا بغرورنا وأنانيتا أفسدنا الرقصة التى شاء الله ان نشاركه فيها، أفسدنا رقصتنا معه، أفسدنا الرقصة –وأنقطع النور- وسقطنا كلنا،بغرس واحد تعكر صفو الانسجام والرومانسية المتبادلة بين أدم(البشرية) والثالوث، فإنقطع النور الذى مصدره هو الله، وسقط الانسان,

·     أفسدنا الرقصة الزمنية ولكننا لم نقدر على أفساد الرقصة الأزلية(المحبة الثالوثية)، فمازال الحلول قائم, ومازال  الحب قائم، ومازالت أصداء "الرقصة الازلية" تُسمع فى التجسد، لقد تجسد ابن الله- ليعيد النور المقطوع فى قاعة الفرح- أنه فعل حب يقوم به أقنوم الابن منذ الأزل، ولكنه اليوم أنسكب فى قلوبنا(رومية 5:5)لكى مانعود الى الرقصة التى تشوهت وفسدت بإنقطاع النور

·     لقد كان التجسد   محاولة لإصلاح إنقطاع  النور، محاولة ودعوة للعودة الى تبادل الحلول، وتبادل الرقص  مرة أخرى، دعوة للخروج من الخوف ، الخروج من الأنانية، دعوة "للرقصة الأزلية" ، نتشارك فيها ونأخذ موقعنا من "مبادلة الثالوث"  ،فنبادله الحركة ونسترد مكاننا فى الوجود المتبادل فى الثالوث .

نحن والثالوث القدّوس الأرشمندريت توما بيطار

 

نحن والثالوث القدّوس


... وخلق الله الإنسان على   صورته   ومثاله.
على صورته، لدى العديد من الآباء، بمعنى المواهب الطبيعية، وعلى مثاله بمعنى المواهب الروحية
انطلاقاً من هذا الفهم، لا يسعنا أن نتكلّم على الله إلاّ في إطار صورة الله ومثاله فينا . ما نختبره كمخلوقات هذا نستطيع أن نتكلّم عليه وكذا ما يُعطى لنا من مواهب الروح القدس. 


الله واحد لأنّ طبيعته واحدة، لأنّ جوهره واحد. هذا بإمكاننا أن نتكلّم عليه لأنّنا نعرف، بالمقايسة، أنّ هناك طبيعة بشرية واحدة هي طبيعتنا، هي ما يجمعنا نحن البشر ، هي ما يجعلنا واحداً على كثرة. طبعاً لا كنه الطبيعة البشرية ندركه ولا كنه الطبيعة الإلهية. فقط نختبر الإشعاعات أو الطاقة الصادرة عن الطبيعة الإلهية الواحدة. إشعاعاتنا، نحن البشر، مخلوقة لأنّها صادرة عن طبيعة مخلوقة، فيما إشعاعات الطبيعة الإلهية غير مخلوقة لأنّها صادرة عن طبيعة غير مخلوقة.
الإشعاعات الإلهة تتمحور كلها في واحدة وهي المحبّة. المحبّة لا تسقط أبداً. الله محبّة. يشعّ محبّة. لذا معرفتنا له كواحد تأتينا من خبرتنا به أنّه محبّة. المحبّة، من جهتنا كبشر، هي ما يجعل الله يتجلّى في حياتنا كواحد. الآب والابن والروح القدس، وجودياً، واحد لأنّ عمل الله واحد وإشعاعه واحد.
 من هنا نعرف أنّ كل ما للآب هو للابن وكل ما للابن هو للروح القدس وكل ما للروح القدس هو للآب. لذا، في كل مرّة يُظهر الله نفسه يكون الآب والابن والروح القدس حاضراً معاً.
 نحن لا نعرف أي فرق بين الآب والابن والروح القدس إلاّ في كون الآب هو الآب، أي شخصاً مميَّزاً، والابن هو الابن، أي شخصاً آخر مميَّزاً، والروح القدس هو الروح القدس، أي شخصاً آخر مميَّزاً عن الآب والابن. بالإضافة إلى ذلك، نعرف أنّ الابن وحده تجسّد. لا الآب تجسّد ولا الروح القدس تجسّد. إذاً الله مميّز في شخصانيته كثالوث. فيما عدا ذلك واحد هو في عمله، واحد هو في حضوره لأنّه واحد في طبيعته. 
متى تكلّمنا على الله ولم نحدّد، أو لم يحدّد سياق كلامنا، ما إذا كان هو الآب أو الابن أو الروح القدس، فإنّ المقصود يكون الإله الواحد في ثلاثة أقانيم.
 آباؤنا تكلّموا، استمداداً من الإعلان الإلهي، على صيغة محدّدة يتمّ من خلالها التعبير عن حضور الله كثالوث وعن عمل الله الواحد كثالوث.
 كل شيء يصدر من الآب وكل شيء كائن بالابن وكل شيء يأتي في الروح القدس.
 ولأنّ الله محبّة، الله يتجلّى في حياتنا كواحد. لا نقصد بالوحدة العدد ولا إذا تكلّمنا على الثالوث. المقصود بالوحدة الملء أو الكمال والإشارة في الثالوث إلى أنّ الله محبّة. لو لم يكن الله ثالوثاً ما أمكننا أن نعرف الله كمحبّة. لو كان الله شخصاً واحداً ما أمكنه أن يكون محبّة. المحبّة لا تحبّ ذاتها.. طالما هناك محبّة فهناك آخر. هناك علاقة وتبادل. الثالوث هو ملء المحبّة. 
إذا كان الله على الصورة التي أبنّا  فإنّنا نحن مدعوّون، فيما بيننا، نحن البشر، إلى وحدة من النوع الثالوثي، أي نحن مدعوّون إلى محبّة كاملة توحّدنا. طبعاً، الله هو الذي يعطينا أن نبلغ ملء المحبّة. ولكن، علينا، نحن أيضاً، أن نساهم فيها.
 نحن شركاء الله في عمل المحبّة. لكل منا دور ولله أيضاً دور. نحن والله نصل إلى الملء في شأن المحبّة بين الناس. من هنا الوصية الثانية المستمددة من الأولى: "تحبّ قريبك كنفسك".
 هذا معناه أن تحبّ وأن تصير واحداً ومَن تحبّ. تعامله بالانفتاح الكامل. كأنّه نفسك. لا يعود هناك فاصل، في الحبّ، بينك وبينه. فقط  تتمايزان. أنت شخص وهو شخص آخر. فإذا ما تحقّق هذا المثال، فيما بيننا، بتنا نحن، على مثال الله، ذوي محبّة ثالوثية. هذا نختبره بالحبّ الإلهي الذي يسكبه الله في قلوبنا والذي نقتبله نحن، عن إرادة طيِّبة، ونقتنيه. 
ثمّ، في الثالوث القدّوس، كتعبير عن الله المحبّة، لا الآب يشهد لنفسه بل للابن، ولا الابن يشهد لنفسه بل للآب ولا الروح القدس يشهد لنفسه بل للابن. كلٌّ في الثالوث القدّوس يشهد للآخر. كلٌّ في الثالوث القدّوس يتجلّى في الآخر.
 من هنا قول يسوع: "مَن رآني فقد رأى الآب". لهذا الواقع، أيضاً، تجلّيه في حياة الناس على مثال الله. فإنّه يناسب الإنسان أن يكون، دائماً، ممتدّاً إلى غيره، لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين، ولا يشهد لنفسه بل للآخرين. هذا معطى لنا بنعمة الله. فقط علينا أن نقتبله وأن نجاهد لنسلك فيه. الخروج من الذات باتجاه الآخر. أن نقبل أن نتجلّى في الآخرين. أن نقبل أن تكون شهادتنا للآخرين، تشير إليهم ولا تشير إلينا. هذا، أيضاً، يجعلنا على مثال الله. 
كذلك في الآب والابن والروح القدس، كلٌّ حاضر في الآخر. هذا أيضاً نختبره في علاقاتنا فيما بيننا نحن البشر. بالحبّ، نحن مدعوّون لأن نجعل الآخرين حاضرين في حياتنا. لا نتصرّف من دونهم، كأنّهم غير موجودين.
 نتصرّف بوحي من حضورهم فينا بالحبّ. لا يمكننا، من هذا المنظور، أن نعمل شيئاً من دون الإخوة، من دون أن نحسب حساباً للإخوة، من دون أن يكون ما نفعله لخيرنا لخير الإخوة أيضاً. ما نسعى إليه، كل يوم، هو أن نحمل الآخرين في نفوسنا بالحبّ. طبعاً هذا لا يكون ممكناً إلاّ إذا كنا في سعي حثيث إلى تنقية نفوسنا من كل شبه خطيئة، أي من كل شبه عشق للذات. عبادة الذات تنفي محبّتنا للإخوة وعبادتنا لله. 
علينا، بصورة متواترة، أن نعمل على تنقية نفوسنا. وهذا لا يتمّ إلاّ بأمرين: بنعمة الله وبغصب نفوسنا على اقتبال عمل الله ونعمة الله. نحن مغمورون بنعمة الله وقد اعتمدنا باسم الآب والابن والروح القدس. كل الملء الإلهي معطى لنا. لقد ارتضى الربّ الإله، في كل عظمته، أن يقيم فينا نحن الأشقياء الضعفاء.
 ولكنْ علينا أن نتمثّل هذه النعمة الفائقة. ما معنى التمثّل؟ تمثّل الطعام هو أن نأكل ونهضم الطعام وأن يتحوّل الطعام فينا إلى غذاء للدم. الطعام، بالتمثّل، يتحوّل فينا إلى حياة جديدة. فنحن حين نقول إنّ علينا أن نتمثّل نعمة الله نقصد أنّ نعمة الله قد أُعطيت لنا كطعام. ولكنْ علينا أن نهضم هذا الطعام بقبولنا له، بتنقيتنا لأنفسنا. نفتح كياننا لهذا الطعام الإلهي بحيث يتحوّل فينا إلى حياة جديدة، إلى غذاء لكياننا. 
إذاً علينا، دائماً، أن نكون في سعي إلى تمثّل النِّعَم الإلهية المعطاة لنا. كلّما اجتهدنا للخروج من ذاتيتنا، من أنانيتنا، من مشيئتنا الخاصة، كلّما أمكننا أن نمتصّ الغذاء الإلهي.
 النعمة الإلهية، إذ ذاك، تتفعّل فينا. محبّة الله، والحال هذه، تفعل فينا بصورة متزايدة، وبها نبلغ هذا المثال الإلهي إذ نحقّق الوصيّة التي تقول: "أحبّ قريبك كنفسك". إذاً نحن نعرف الثالوث القدّوس بمقدار ما نتنقّى ونتعاون مع نعمة الله ونمتصّ المواهب الإلهية بحيث تقيم محبّة الله فينا وتتفعّل. 
طبعاً، هذا، على الأرض، يكون جزئياً. وكما ورد في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثالث عشر: "ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت" (الآية 12).
هناك، إذاً، مسير. وصيته طريق. والروح القدس هو المرشد في هذا الطريق. كل شيء معطى لنا. لم يحجب الله شيئاً عنا لكي نبلغ إليه. ولكنْ كل شيء يأتي في أوانه. يبقى علينا أن نقتبل، أن نجتهد، أن نخرج من ذاتيتنا، أن نحبّ، أن نتنقّى من كل شبه خطيئة. 
معرفتنا للثالوث القدّوس متوقّفة على معرفتنا، في العمق، لأنفسنا، وعلى معرفتنا لنعمة الله المقيمة فينا. نعرف الثالوث القدّوس لأنّه مقيم فينا. لا نعرفه كنظرية. نعرفه كإعلان إلهي.
لأنّ الإعلان الإلهي أُعطي لنا ليكون نموذجاً لنا نحيا بحسبه ونسلك فيه. معرفتنا بالثالوث القدّوس ليست نظرية بل بحسب الإنسان الجديد، بخبرة الإنسان الجديد. لذلك كل خلل في التعليم في شأن الثالوث القدّوس يكون مؤشّراً على خلل في الحياة الروحية، في حياة الإنسان الجديد. ليس بإمكاننا، أبداً، أن نكوّن تصوّراً حقّانياً عن الثالوث القدّوس لا يكون مطابقاً للإعلان الإلهي من ناحية، وموازياً للحياة الروحية القويمة التي علينا أن نسلك فيها. 
من هنا تمسّكنا بالإيمان القويم في كنيسة المسيح. كل خروج على الإيمان القويم هو خروج على الله.
 مستحيل على الإنسان، إذا تبنّى، كيانياً، تعليماً غريباً عن تعليم الكنيسة، أن يكون على علاقة قويمة بالله. التعليم، عندنا، مرتبط بأصول الحياة الروحية، ونتمثّله على صعيد الحياة الروحية، على صعيد علاقتنا بالله وببعضنا البعض. 
اليوم، إذ نودِّع العنصرة المجيدة، نجدّد تمسّكنا بالإيمان الذي انحدر إلينا من الرسل والآباء القدّيسين في شأن الثالوث القدّوس. 
كما نعلن تمسّكنا بالسلوك في المثال الثالوثي والحياة الثالوثية وعمل الله الثالوثي فينا. فليكن اسم الربّ مباركاً ولتكن نعمته مظلِّلة لنا في وعينا وفهمنا وتبنِّينا لهذا المسير إلى أن نستقر بالتمام والكمال في الله ثالوثاً كما سُرّ هو أن يستقرّ فينا إلى الأبد. 



الأرشمندريت توما بيطار 

الثالوث القدّوس وجوديّاً الأرشمندريت توما (بيطار)

 

 


الثالوث القدّوس وجوديّاً

"الله محبّة". إذاً الله شخصاني . هناك فرق بين الشخص والفرد . الفرد يتميّز بفرادته فيما يتحقّق الشخص بامتداده، باجتماعه إلى غيره، باتحاده بسواه.

الشخص يمتدّ صوب الشخص فيكون . العلاقة تكون بين أشخاص .

الشخص هو مَن يحبّ أو لا يكون شخصاً. يكون فرداً. يبقى في مستوى الفرادة. لذلك الله شخصاني، لأنّه يُحِبُّ ويُحَبّ. هذا، كما يظهر فيما بيننا، هو إسّ الله، حقيقتُه الكيانية العميقة.

مقاربتنا لله كثالوث هي، بالضبط، من منطلق كونه محبّة. الله لا يُعَدَّ. الله واحد لأنّه تمام المحبّة وملؤها. المحبّة تكون إلى واحد. الله، في ذاته، واحد لأنّه محبّة.

كل ما في الله واحد لأن كل ما في الله محبّة. والمحبّة، أيضاً، شخصانية، أنا وأنت وهو.

المحبّة هي آب وابن وروح قدس، الآب كشخص والإبن كشخص والروح القدس كشخص وإلاّ لا تكون . لا تكون هناك محبّة إذا ما أحبّ الواحد أو الفرد نفسه. المحبّة هي في الحركة باتجاه الآخر.

"في البدء كان الكلمة والكلمة كان نحو الله" (يو 1: 1). "نحو الله"، في اليونانية، أدق من "عند الله". هذا كان في البدء. الواحد يتجلّى في الآخر. الآخر يكون مرآة للواحد. لا يُعرف الواحد، في المحبّة، في ذاته بل في الآخر.

في المحبّة كلٌّ إيقونة للآخر. يا أنا أنت! "مَن رآني فقد رأى الآب".

وكلّ، أيضاً، يخبِّر عن الآخر. يشهد للآخر. "الذي يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أنّ شهادته التي يشهدها لي هي حقّ" (يو 5: 32).

"الآب نفسه الذي أرسلني هو يشهد لي" (يو 5: 37).

"لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً" (يو 8: 19).

"المعزّي... روح الحقّ... هو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً" (يو 15: 26 – 27). "المحبّة لا تطلب ما لنفسها" (1 كو 13: 5).

المحبّة لا تقدر أن تفعل من نفسها شيئاً. لذا قولة يسوع كانت: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يو 5: 30). ليس بمعنى أنّه عاجز عن شيء ولكنْ لأنّ طبيعته محبّية يشهد للآب ويتجلّى في الروح القدس وتلاميذِه، كما يشهد له الآب والروح.

" لهذا يحبّني الآب لأنّي أفعل في كل حين ما يرضيه".

في المحبّة يغيِّب الشخصُ نفسَه إرادياً في الآخر. "لست أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني". هذا قاله يسوع رغم أنّ مشيئة الآب هي إيّاها مشيئة الابن طالما محبّة الآب والابن، كلّ للآخر، واحدة.

لكل هذا تمام المحبّة وحدة في ثالوث. المحبّة لا تكتفي بالـ "أنا" والـ "أنت" لئلا تنغلق وتمسي أنانية مزدوجة. حين يحبّ الرجل والمرأة كلٌّ الآخر دون الناس تستحيل محبّتهما أنانية ثنائية. محبّتهما لثالث تكون دليلاً على سلامة المحبّة بينهما. والثالث هو كلُّ آخر وإلاّ يكون الآخر امتداداً لأنانية اثنين.

ملء الاستقرار في المحبّة هو للثالوث لأنّ الله في الثالوث ينفتح ويسكب ذاته بلا حدود. لذا محبّة الله بيننا انسكاب ثالوثي. الثالوث، في ذاته، محبّة ونحن في الامتداد، في النعمة، بالتبنّي. هكذا أظهر الله ذاته لنا وهكذا عرفناه ونشهد له بمحبّة من المحبّة التي هو إيّاها والتي أحبّنا بها.

"نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أولاً" (1 يو 4: 19).

"ونحن قد عرفنا وصدّقنا المحبّة التي لله فينا" (1 يو 4: 16).

والمحبّة التي من الله فينا والتي بها نحبّه هي أيضاً المحبّة التي نتعاطاها فيما بيننا. فإن فعلنا نتكمّل، أي نصير واحداً على مثال الثالوث، لأنّ محبّته تكون قد تكمّلت فينا في خطّ القول العظيم: "إن أحبّ بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبّته قد تكمّلت فينا" (1 يو 4: 12).

هذه بالذات هي معرفة الله، هذه هي الحياة الأبدية، أن تكون فينا محبّتُه محبّتَنا له ولأحدنا الآخر. "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17: 3).

كل الكلام عن كون الآبِ في الابن والابنِ في الروح القدس، وعن كونِنا في المسيح وكونِ المسيح فينا، وعن إقامة الآب والابن فينا كلُّه كلامُ محبّة. في نهاية المطاف الآب يعطينا الكلَّ لأنّه يعطينا ذاته في الابن بالمحبّة التي هي من جوف الله. نحن لا نتكلّم عن كون الإنسان مدعواً للتألّه إلاّ في نطاق الكلام عن محبّة الله التي تجعله مقيماً فينا من حيث كونه محبّة. الله فينا لأنّه أحبّنا. بعد ذلك كل حديث عن جوهر الله يتخطّى أفهامَنا لأنّنا نحن لا نعرف جوهر الله. فقط نعرف أنّ جوهر الله يُشعّ فينا وبيننا محبّةً واحدة، مشيئةً واحدة، قوّةً واحدة، حضوراً واحداً.

كما أنّه لا يمكننا أن نتكلّم عن الله إلاّ باعتبار كونه محبّة، لا يمكننا أن نتكلّم عن الله إلاّ باعتبار كونه ثالوثاً.

في الله كما عرفناه ونعرفه يأتينا اللهُ المحبّةُ آباً بالابن في الروح القدس، محبّةً واحدة. لا الآبُ نعرفه وحيداً ولا الإبنُ وحيداً ولا الروحُ القدس وحيداً بل نعرف كلاً متوارياً في الآخر. متى قلتَ اللهَ قلتَ واحداً في ثالوث.

كلُّ ما للآب هو للابن وكلُّ ما للابن هو للروح القدس وكل ما للروح القدس هو للآب. ليس للآب ما ليس في الابن والروح القدس. ليس ما للواحد ما ليس في الآخر. لا يفرق الآب عن الابن، عن الروح القدس، في شيء إلاّ في كون الآب آباً مميَّزاً عن الابن، مميَّزاً عن الروح القدس. المحبّة واحدة. المشيئة واحدة. القوّة واحدة. النور واحد ثالوثي أبداً.

لكنْ فقط ابنُ الله تجسّد. لا الآب تجسّد ولا الروح القدس تجسّد. لذا كلمة الله، من جهة الآب والروح القدس، واحد مع الله في اللاهوتِ والمشيئة والقوّةِ. وكلمة الله المتجسّد، من جهة الناس، واحد، مع الناس، في الناسوتِ والمشيئةِ والقوّةِ. هذا يجعل يسوع ذا مشيئتَين وقوّتَين، واحدة من جهة الله والأخرى من جهتنا.

لكنّه، في كل شيء، أَخْضَع ما للبشرة للآب السماوي حتى نُخْضِعَ نحن، أيضاً، في الروح القدس، وإرادياً، ما لمشيئتنا وما لقوّتنا للآب السماوي، لكيما بإخضاعِنا ذواتِنا لله، عن إرادة، تنساب محبّته فينا وتقيم بيننا ليصير الآبُ الكلَّ في الكلّ ويَصيرَ فينا كل ما في الآب لأنّ الروح يُعطى بلا قياس.

آباؤنا تكلّموا عن جوهر الثالوث الواحد. هذا، وجودياً، تأكيد لأزليّة المحبّة، أنّه لم يكن وقت لم يكن فيه الله محبّة، أي لم يكن هناك وقت لم يكن فيه الله واحداً في ثالوث. الآب أزلي والابن أزلي والروح القدس أزلي. فلأنّه واحد أزلي، آباً وابناً وروحاً قدساً، لأنّ محبّته واحدة ومشيئتَه واحدة وقوّتَه واحدة،

لذلك لا بدّ أن يكون جوهرُه واحداً. الجوهر، لغةً، مفردة فلسفية نعبّر بها عن تلك الظلمة النورانية التي تفوق ما أُعطي لنا أن نعرفه والتي تكمن وراء كل ما أُظهِرَ لنا ومنها ينبثق.

هذا هو الإله الذي نعبد. الله تكلّم، بدءاً، بالكلمة ليُعِدَّنا، في التاريخ، لخطاب من نوع جديد. والخطاب الجديد الذي كشف لنا فيه سرّ تدبيره للبشريّة كان كلمة الله. الله، في ملء الزمان، كلّمنا بابنه. "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا، في هذه الأيّام الأخيرة، في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء..." (عب 1: 1 – 2).

الوارث هو مَن قيل كل ما سبق أن قيل عنه. فإن لم يأت الكلام الذي كلّم به الله كل الشعوب، منذ البدء، وهو الذي لم يترك نفسه بلا شاهد في كل أمّة (أع 14: 17)، إن لم يأت هذا الكلام بالشعوب إلى مسيح الربّ تكون قد ضلّت سواء السبيل.

خطاب الله للأقدمين لم يكن إلاّ علامات طريق تفضي إلى المدينة السماوية. ما سبق أن كلّم به الله الأمم كلّها لم يكن غاية في ذاته بل مؤشّرات إلى المسيح. كل العهد القديم، وكل كلام صدر عن الله للعالمين، رَسَمَ الملامح الروحية لمسيح الربّ الآتي قليلاً أو كثيراً. لا بديل عن المسيح. "ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي". المسيح أو الضلال! ولا ملامح إلاّ التي حدّدتها كنيسة المسيح وآباؤها وقدّيسوها وهي ملامح في الروح لا يتبيّنها إلاّ السالكون في نقاوة القلب. "طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله". المسألة ليست لا مسألة علم ولا ثقافة ولا حضارات.

هذه تعابير لما هو في الكيان وليست الكيان عينه. لذلك الكنيسة متى تكلّمت تتكلّم لأنّها تعرف وتخاطب الكيان. ومتى كرزت بالحقّ – والكرازة أقدس الوصايا من جهة محبّتنا للسالكين في الظلمة وظلال الموت – أقول متى كرزت الكنيسة بالحقّ تشهد "أنّ الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. نكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً" (1 يو 1: 2 – 4).

كل هذا ما كان ليكونَ لنا فيه نصيب لو لم تكن العقيدة نصيبَنا، لو لم نتمسّك بها بأمانة ما بعدها أمانة. عقيدتنا هي نور عيوننا. لولاها لغططنا في الظلمة والجهل.

لولاها لما كنّا نعرف الله ومحبّة الله ولما كان لنا نصيب في سكنى الله فينا.

نحن رائحة الثالوث. "نحن رائحة المسيح الزكيّة لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15 – 16).

 

إذاً عقيدتنا وجودُنا لأنّها إيقونة ملء محبّة الله لنا ومصوَّر خلاصنا.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)

رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما