- يُحِقِق الإنسان شخصيته من خلال"سر الشركة",ذلك السِر الذى باتَ كحقيقة قائمة بين الإنسان وبين الله,وهذه الحقيقة تحققت فى"ملئ الأزمنة.حينما أرسل الله إبنه مولوداً من امرأة(غلاطية4:4).
- ففى ملئ الزمان ينتهى زمان ويبدأ زمن آخر,فقد إنتهى زمن العبودية وإنتهت مَعَه إنسانيتنا العتيقة(2كو17:5),إنه زمن التجديد... الإنجماع.إنه بالحقيقة زمن الشركة,شِركتنا فى الله وشركة الله فينا. .إنه ملئ الخليقة الجديدة(2كو17:5)وكلمة الخليقة هُنا قد جائت بصيغة مؤنث,وفى هذه الحالة بحسب قواعد اللغة ,يكون المقصود هو"التحرك والعمل والإنتاج "[1]فيكون المقصود إن هذا الزمان هو زمن الخليقة الجديدة,التى يجب أن تنمو وتتحرك نحو الله لكى ما تقدر أن تُحِقق كينونتها.
- لعل الرسول يقصد هنا بالسرّ الذي يعلنه للمؤمنين هو على وجه الخصوص تحقيق خطة الله في ملء الأزمنة، حيث يعمل بكمال سلطانه وملئها لخِلق جماعة مسكونية من المؤمنين في المسيح، مقدسة فيه[2].وربما ملء الزمان يعني انتهاء زمان الإنسان، زمان الخطية والشقاء واللعنة، ومجيء أيام الله: » أيام ابن الإنسان «(لو 26:17)، » أنا اليوم ولدتك «(عب 5:1)، التي ليست من هذا الزمان بعد، وهي أيام الخلاص والبر والمصالحة والحياة الجديدة التي لا تمتُّ إلى هذا الزمان. فهي بمثابة إنفتاح السماء على الإنسان لتلقِّي روح حياة جديدة ليست من هذا الزمان ولا من هذا العالم. حيث اليوم فيها بألف سنة زمان، وحيث لا يولد الإنسان بعد ليدب على الأرض كحيوان الخلقة الأٌولى، بل يولد من فوق ليعيش لفوق[3].
- إنه زمن الدعوة..الدعوة إلى التحقق والتحقيق من "كينونة الإنسان".زمن إكتمال إقنومية الإنسان,تكلم عنه ق.بولس فقال: [تَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ][أف10:1].ولم يِقِصِد ق.بولس إجتماع المؤمنين عند المسيح فحسب[!].بل إن لهذه الأية معنى أعمق بكثير من ذلك.
- فالكلمة المُستخدمة هنا هيا[ἀνακεφαλαιώσασθα]أى[ليجمع كل شئ فى المسيح], [Recapitulation],وهيا تُعنى عند اليونان [مجموعة من الآرقام],ولكن إستخدمها آباء الكنيسة بمعنى بلاغى أعمق ,للتدليل على مجموعة أخبار أو مواضيع,يوضع لها عنوان تدليلى يجمعها..فيكون المقصود هو[يجمع تحت رأس] بهذا المعنى تماماً يستخدم ق.بولس هذه الكلمة التى تُرجمت"يجمع كل شئ"فى شرح خطة الله الأزلية التى قصدها منذ الدهور,لتكمُل زمان الخلاص بالنسبة للخليقة كلها حينما يجمعهاً معاً فى المسيح,وهو تعبير جيد إذ يعطى فى النهاية إجابة عن معنى وسبب وموقع كل مخلوق أو خليقة من الله بواسطة المسيح والكل فى خضوع إلهى وانسجام فائق[4].
- وهذا يعنى أن المسيح سيُصالح كل أجزاء الخليقة,الواحد بالآخر,ثم الله ,بعد الذى صنعته الخطية فى الخليقة من تفتت وإنقسام وعداوة شديدة أبعدت الكل عن أنفسهم وعن الله ,لذلك لزِم التوحيد العام بالرأس الواحد المسيح فى وحدة مكتملة ناضجة مثمرة كما يقول ق.بولس فى الرسالة إلى رومية[لآنه منه وبه كل الأشياء..][رو36:11][5].
- وعلى هذا الآمر تقوم تعاليم ق. إيرينيئوس اللاهوتية فيقول:ـ[فإن المسيح كما قلنا قد وحد الإنسان مع الله..لقد كان لائقاً أن الوسيط بين الله والناس,بحق قرابته الخاصة مع كل منهما,يعيد الألفة والتوافق بينهما,ويقدم الإنسان إلى الله ويُظهر الله للإنسان..لإنه من أجل ذلك قد جاء مجتازً فى جميع الأعمار[مراحل نمو المسيح]لكى يعيد للجميع الشركة مع الله][6]
- فكان لتجسد إقنوم الإبن أثره البالغ على الطبيعة البشرية-التى أخذ منها جسده-فتلك الطبيعة الفاسدة أصبحت سُكنى وقُدس لله ,أى إنها تقدست وتحول فسادها إلى لا شئ,نعم فـ[حينما صار الكلمة جسداً][يو14:1]فإنه[سكن فينا],هكذا يُعبر ق.يوحنا عن هذا الحد قائلاً[ἐσκήνωσεν ἐν ἡμῖν]وهيا تُعنى بالتحديد[جِعلنا مسكناً طقسياً][7].
- وحينما نقول إنه جعلنا [مسكناً طقسياً]فإننا نُشير إلى الكلمة اليونانىἐσκήνή,وهيا تُعنى عضواً عن قُدس الأقداس,الذى كان يسكُن فيه فى العهد القديم,فلم يعُد الرب فى العهد الجديد يسكُن فى خيمة موسى فى البرية ولا هيكل سُليمان فى أورشليم بل قد صار يسكُن فينا نحن,فى لحمنا ودمنا اللذين أخذهما منا ليتمكن بهما أن يحل ويسكُن داخلنا,فصرنا[بيته نحن][عب6:3] [8].
- فلسُكنى الله فى خيمتنا[ أى جسدنا],وحينما نُصبح نحن قُدس أقداسه [هيكله المُقدس]فلكُل هذا أثره البالغ على شخصية الإنسان,الإنسان الذى فقد شخصيته وشوه أيقونته الإلهية التى طُبعت فيه حينما خُلق[تكوين26:1ُ],وهذا الأثر يظهر بوضوح حينما يُحقق الإنسان إقنوميته,أو يُمكننا أن نقول إن الله هو من حقق إقنومية الإنسان بتجسده.
- فإن كان السيد الرب فى صلاته الوداعية يُردد قائلاً:[لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا][يو21:17],ففى هذه الصلاة تتجلى أمامنا عظمة [سر الإتحاد بالله],ولهذا السبب كانت الكنيسة على مر العصور تُصلى من أجل هذا الإتحاد وتدعوا الجميع له,وأخيراً نُصلى نحن ب[صلاة قسمة]من أروع ما كُتب عن [إتحادنا بالله][عند أصعاد الذبيحة على مذبحك تضمحل الخطية من أعضائنا بنعمتك، عند نزول مجدك على أسرارك ترفع عقولنا لمشاهدة جلالك، عند إستحالة الخبز والخمر إلى جسدك ودمك تتحول نفوسنا إلى مشاركة مجدك وتتحد نفوسنا بألوهيتك ][9] .
- ففى صلاة المسيح قائلاً:[لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا][يو21:17].هو بالحرى يِكشِف لنا حقيقة وهدف [التدبير الإلهى]إلا وهو [الإنجماع],إنجماع كُل الخليقة تحت رأس واحد وهو المسيح.كما إن فى هذه الصلاة ينتقل المسيح فى سؤاله من أجل وحدة الكنيسة فى ذاتها ,إلى الوحدة"فينا"أى فى المسيح والآب,واضح هُناك أن بلوغ الكنيسة حالة الوحدة فى ذاتها هو الذى يؤهلها للاتحاد بالمسيح والآب,وهذا ظاهر من تسلسل الإرتقاء بمفهوم الوحدة"ليكون الجميع واحداً ,ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا"[10].
- فلا يُمكننا أن نقول على أى إنسان إنه"شخص"( persona-(ύπόστασςإلا إذا وُجد شخص أخر معه[11],وهذا الآخر هو من يُبادل الإنسان مشاعره وحُبه فى حركة دائمة,وفى أثناء هذا التبادل يتحقق إقنومية الشخصيين معاً.ولكن فى حالة التجسد فالأمر يِختلف لإن إقنوم الكلمة قد حقق إقنوميته[فى الأزل] من خلال إقنومى الآب والروح القدوس.لذا نحن نقول عن كل من [الآب والإبن والروح القدوس]إنهم أقانيم.
- فلو لم يحدُث التجسد ويتم الإتحاد,لأصبح الإنسان مُجرد"فرد"[atomos]لا يكتمل ولا يتحقق وجوده الإنسانى[12] .فهذا الوجود الإنسانى لا يتم إلا من خلال آخر-بالنسبة للإنسان والإنسانية-وهذا اللآخر وجده الإنسان,أو قول هو وجدنا,ووحدنا فى جسد بشريته.
- لذا فالحديث عن[الإنجماع الكُلى]كان شِبه مُستحيل إذا لم يجد الإنسان[شخص أخر],أو بمعنى أخر كان مُستحيل أن يحدث إذا لم يحدث [التجسد],لإن [الإنجماع الكُلى]هو نتيجة للتجسد,لذا يقول ق.غريغوريوس النزينزى عن هذا السر [إن غاية هذ السر الأعظم من نحونا هو أن أرث معه وأصير ابناً لله,بل وأصيرالله نفسه][13].[وليس بكل تأكيد أن أحل مكان الله,بل المقصود أن أصير فى وحدة مع الله.
- فهذه العقيدة [إنجماع الخليقة تحت رأس واحد وهو المسيح],هيا العقيدة المُكملة لعقيدة[التأليه],إن لم يكون الإثنان واحداً.فلا نقدر أن نُميز بين الإتحاد والتأله والإنجماع,كحقيقة وأمر واقع.لإن الثلاث مُصطلحات تُعبر بالحرى عن هدف وغاية الله .
- ومِن روائع ق.كيرلس الكبير فى هذا النَّسَقُ قوله[إن قوة الله الآب المُحيية هى اللوغس..هذا قد أرسله لنا الآب مُخلصاً وفادياً..وقتنى لنفسه ذلك الجسد المأخوذ منها[من العذراء]وذلك لكى يغرس نفسه فينا باتحاد غير مفتقر...فحينما نأكل جسد المسيح مخلصنا كلنا,ونشرب دمه الكريم,فإننا نقتنى الحياة داخلنا ونصير بنوعٍ ما واحداً معه] [14].
- وتحقيق الوجود الإنسانى وإكتماله[الإنجماع] ليس هو-مُجرد-حالة وصول[إكتمال].فالله وحده هو الذى وصل,وحده هو الكامل بهذا المعنى,ويتم الكمال الإنسانى فى النمو المُستمر نحو الكمال[الله]فى رحلة مُستمرة من صورة الله إلى شبه الله,تحول مُستمر [15].
- فحينما تجسد الله الكلمة,كانت هذه إشارة منه لبدء رحلة يُسميها الآباء"الشركة",فالتجسد كان حقاً دعوة لبداية"أبدية"يتم تأكيدها فى جُرن المعمودية,ولا تنتهى,إنها رحلة قد بدئها الكلمة المُتجسد,وإستكملها الإنسان ولن يُنهيها أى منهم[الله والإنسان],حتى عندأى المجى التانى( (parousia.
- رحلة نحو اللانهاية,رحلة جعلتنا نحن مسكن و[بيت الله]فصدق بولس القول حينما قال[أما المسيح فكابن على بيته,وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء][عب6:3]فأصبح الإنسان هو بيت الله الذى يستريح فيه,ويجد راحته,ولهذا يدعوه داود إلى هذا البيت قائلاً:[ قم يا رب إلى راحتك][مزمور131] فأكثر موضع يستريح فيه الرب هو قلب الإنسان.
- وللأب متى المسكين تعليق هائل جدا حول تِلك النقطة فيقول:ـ[انظر أيها القارئ العزيز,ما أصغر هذه الجملة,ولكن بقدر صغرها بقدر ما حوت من حوادث وأهوال يشيب من هولها الولدان,فعلى هُداها احرق الهيكل وأفرغت المدينة من هيئتها وسُكانها وصارت عاراً على أصحابها,هذا كله لكى يحول الله بيته القديم إسرائيل فى معناه الأول كخيمة شهادة أو خيمة أجتماع مع الله ثم هيكل الله العظيم فى أورشليم إلى "بيته نحن"أى الكنيسة حيث انتهت عصور وجاءت عصور ,ووقف الصليب بدمه يحجز بين الصفين...و"بيته"بمعناه الأقصى سراً هو جسده,حيث فيه هو رأس البيت ورئيس الكهنة,وبيته أيضاً هو عروسه ,ومدينة مقدسة مزينة فى السماء,هكذا صار وهكذا هو كائن الآن. أن بيته لم يعد هم اليهود ولا بنو إسرائيل بل"نحن"[16].
- إنه"سِر"تحقيق إقنومية الإنسان,الذى تحقق من خلال المُصالحة التى تمت بين السمائيين والآرضيين.لهذا السبب نحتفل كُل يوم بهذا السر العظيم,فنحتفل اليوم وكُل يوم بسر الإتحاد والمُصالحة الذى تم بين اللاهوت والناسوت,بين الله والإنسان اليوم إنفتح الطريق للإنسان نحو الله,وطريق الله إنفتح نحو النفس البشرية...لقد ظل أدم وحده ولو لم تتحد به المرأة التى حُبلت منه لما انتجت نسلاً,وهكذا النفس أيضاً,إن لم تتحد بالمسيح وتدخل فى شركه معه لا تستطيع[النفس] أن تثمر ثمار الروح.[17]
النعمة معكم.
مينا فوزى...