2015/07/08

تحقيق إقنومية الإنسان




 






-تتحقق إقنومية الإنسان من خلال "سر الشركة"القائم بينه وبين الله.وهذا السر قد تم وتحقق فى "ملئ الأزمنة" حينما أرسل الله إبنه مولوداً-سر التجسد-كما قال ق.بولس(غلاطية4:4),لذا يُمكِننا أن نقول إن إقنومية الإنسان تحققت بتجسد إقنوم الإبن.



-لعل الرسول يقصد هنا بالسرّ الذي يعلنه للمؤمنين هو على وجه الخصوص تحقيق خطة الله في ملء الأزمنة، حيث يعمل بكمال سلطانه وملئها لخلق جماعة مسكونية من المؤمنين في المسيح، مقدسة فيه[1].ولكن ملء الزمان يعني انتهاء زمان الإنسان، زمان الخطية والشقاء واللعنة، ومجيء أيام الله: » أيام ابن الإنسان «(لو 26:17)، » أنا اليوم ولدتك «(عب 5:1 التي ليست من هذا الزمان بعد، وهي أيام الخلاص والبر والمصالحة والحياة الجديدة التي لا تمتُّ إلى هذا الزمان. فهي بمثابة انفتاح السماء على الإنسان لتلقِّي روح حياة جديدة ليست من هذا الزمان ولا من هذا العالم. حيث اليوم فيها بألف سنة زمان، وحيث لا يولد الإنسان بعد ليدب على الأرض كحيوان الخلقة الأٌولى، بل يولد من فوق ليعيش لفوق[2]



-ففى ملئ الأزمنة تحققت كينونة الإنسان,وإكتمل إقنومية الإنسان,فحينما يقول ق.بولس الرسول:ـ[مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ][أف10:1].فهو لا يتكلم عن إجتماع المؤمنين عند المسيح فحسب.بل إن ق.بولس يقصد ما هو أعمق من ذلك بكثير,فالكلمة المُستخدمة هنا هيا[ἀνακεφαλαιώσασθα]أى[ليجمع كل شئ فى المسيح], [Recapitulation],وهيا تُعنى عند اليونان [مجموعة من الآرقام],ولكن إستخدمها آباء الكنيسة  بمعنى بلاغى أعمق ,للتدليل على مجموعة أخبار أو مواضيع,يوضع لها عنوان تدليلى يجمعها..فيكون المقصود هو[يجمع ما تحت رأس] بهذا المعنى تماماً يستخدم ق.بولس هذه الكلمة التى تُرجمت"يجمع كل شئ"فى شرح خطة الله الأزلية التى قصدها منذ الدهور,لتكمُل زمان الخلاص بالنسبة للخليقة كلها حينما يجمعهاً معاً فى المسيح,وهو تعبير جيد إذ يعطى فى النهاية إجابة عن معنى وسبب وموقع كل مخلوق أو خليقة من الله بواسطة المسيح والكل فى خضوع إلهى وانسجام فائق.



-وهذا يعنى أن المسيح سيصالح كل أجزاء الخليقة,الواحد بالآخر,ثم الله ,بعد الذى صنعته الخطية فى الخليقة من تفتت وانقسام وعداوة شديدة أبعدت الكل عن أنفسهم وعن الله ,لذلك لزم التوحيد العام بالرأس الواحد المسيح فى وحدة مكتملة ناضجة مثمرة كما يقول ق.بولس فى الرسالة إلى رومية[لآنه منه وبه كل الأشياء..][رو36:11][3]


-وعلى هذا الآمر  تقوم تعاليم ق. إيرينيئوس اللاهوتية فيقول:ـ[فإن المسيح كما قلنا قد وحد الإنسان مع الله..لقد كان لائقاً أن الوسيط بين الله والناس,بحق قرابته الخاصة مع كل منهما,يعيد الألفة والتوافق بينهما,ويقدم الإنسان إلى الله ويُظهر الله للإنسان..لإنه من أجل ذلك قد جاء مجتازً فى جميع الأعمار[مراحل نمو المسيح]لكى يعيد للجميع الشركة مع الله][4]





-فكان لتجسد إقنوم الإبن أثره البالغ على الطبيعة البشرية-التى أخذ منها جسده-فتلك الطبيعة الفاسدة أصبحت سُكنى وقُدس لله ,أى إنها تقدست وتحول فسادها إلى لا شئ,,نعم فـ[حينما صار الكلمة جسداً][يو14:1]فإنه[سكن فينا],هكذا يُعبر ق.يوحناعن هذاالحد قائلاً[ἐσκήνωσεν ἐν ἡμῖν]وهيا تُعنى بالتحديد[جِعلنا مسكناً طقسياً][5].

-وحينما نقول إنه جعلنا [مسكناً طقسياً]فإننا نُشير إلى الكلمة اليونانىἐσκήνή,وهيا تُعنى عضواً عن قُدس الأقداس,الذى كان يسكُن فيه فى العهد القديم,فلم يعُد الرب فى العهد الجديد يسكُن فى خيمة موسى فى البرية ولا هيكل سُليمان فى أورشليم بل قد صار يسكُن فينا نحن,فى لحمنا ودمنا اللذين أخذهما منا ليتمكن بهما أن يحل ويسكُن داخلنا,قصرنا[بيته نحن][عب6:3] [6].



-فلسُكنى الله فى خيمتنا أى جسدنا,وحينما نُصبح نحن هيكله المُقدس-قُدس أقداسه-فلكُل هذا أثره البالغ على شخصية الإنسان,الإنسان الذى فقد شخصيته وشوه أيقونته الإلهية التى طُبعت فيه حينما خُلق[تكوين26:1ُ],وهذا الأثر يظهر بوضوح حينما يُحقق الإنسان إقنوميته,أو يُمكننا أن نقول إن الله هو من حقق إقنومية الإنسان بتجسده.



-فلا يُمكننا أن نقول على أى إنسان إنه"شخص"( persona-(Πρόζωπονإلا إذا وُجد شخص أخر معه[7],وهذا الآخر هو من يُبادل الإنسان مشاعره وحُبه فى حركة دائمة,وفى أثناء هذا التبادل يتحقق إقنومية الشخصيين معاً.ولكن فى حالة التجسد فالأمر يِختلف لإن إقنوم الكلمة قد حقق إقنوميته من خلال إقنومى الإب والروح القدوس.لذا نحن نقول عن كل من [الآب والإبن والروح القدوس]إنهم أقانيم.


-فلو لم يحدُث التجسد ويتم الإتحاد,لأصبح الإنسان مُجرد"فرد"[atomos]لا يكتمل ولا يتحقق وجوده الإنسانى[8] .فهذا الوجود الإنسانى لا يتم إلا من خلال آخر-بالنسبة للإنسان والإنسانية-وهذا اللآخر وجده الإنسان,أو قول هو وجدنا,ووحدنا فى جسد بشريته.



-وتحقيق الوجود الإنسانى وإكتماله ليس هو-مُجرد-حالة وصول[إكتمال]فالله وحده هو الذى وصل,وحده هو الكامل بهذا المعنى,ويكمُل الكمال الإنسانى فى النمو المُستمر نحو الكمال[الله]فى رحلة مُستمرة من صورة الله إلى شبه الله,تحول مُستمر [9].


-فحينما تجسد الله الكلمة,كانت هذه إشارة منه لبداء رحلة يُسميها الآباء"الشركة",فالتجسد كان حقاً دعوة لبداية"أبدية"يتم تأكيدها فى جُرن المعمودية,ولا تنتهى,فقد بدئها[الرحلة] الكلمة المُتجسد,وإستكملها الإنسان ولن يُنهيها أى منهم[الله والإنسان],حتى عند( (parousiaأى المجى التانى.



-رحلة نحو اللانهاية,رحلة جعلتنا نحن مسكن و[بيت الله]فصدق بولس القول حينما قال[أما المسيح فكابن على بيته,وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء][عب6:3]فأصبح الإنسان هو بيت الله الذى يستريح فيه,ويجد راحته,ولهذا يدعوة داود إلى هذا البيت قائلاً:[ قم يا رب إلى راحتك][مزمور131] فأكثر موضع يستريح فيه الرب هو قلب الإنسان. [10]



-وللأب متى المسكين تعليق هائل جدا حول تِلك النقطة فيقول:ـ[انظر أيها القارئ العزيز,ما أصغر هذه الجملة,ولكن بقدر صغرها بقدر ما حوت من حوادث وأهوال يشيب من هولها الولدان,فعلى هُداها احرق الهيكل وأفرغت المدينة من هيئتها وسُكانها وصارت عاراً على أصحابها,هذا كله لكى يحول الله بيته القديم إسرائيل فى معناه الأول كخيمة شهادة أو خيمة أجتماع مع الله ثم هيكل الله العظيم فى أورشليم إلى "بيته نحن"أى الكنيسة حيث انتهت عصور وجاءت عصور ,ووقف الصليب بدمه يحجز بين الصفين.."بيته"بمعناه الأقصى سراً هو جسده,حيث فيه هو رأس البيت ورئيس الكهنة,وبيته أيضاً هو عروسه ,ومدينة مقدسة مزينة فى السماء,هكذا صار وهكذا هو كائن الآن. أن بيته لم يعد هم اليهود ولا بنو إسرائيل بل"نحن"[11].


-إنه"سِر"تحقيق إقنومية الإنسان, تحقق من خلال المُصالحة التى تمت بين السمائيين والآرضيين.لهذا السبب نحتفل كُل يوم بهذا السر العظيم,فإننا نحتفل اليوم وكُل يوم بسر المُصالحة الذى تم بين اللاهوت والناسوت,بين الله والإنسان. اليوم انفتح الطريق للإنسان نحو الله,وطريق الله انفتح نحو النفس البشرية...لقد ظل أدم وحده ولو لم تتحد به المرأة التى حُبلت منه لما انتجت نسلاً,وهكذا النفس أيضاً,إن لم تتحد بالمسيح وتدخل فى شركة معه لا تستطيع أن تثمر ثمار الروح[12]





تم بنعمة الله

مينا فوزى




[1] القمص تادرس يعقوب ملطى من تفسير وتأملات الآباء الاوليى فى رساله بولس الرسول الى اهل افسس ص34-35

 [2] الاب متى المسكين شرح رسالة القديس بولس الرسول الى اهل غلاطية, ص264-

 [3]  الآب متى المسكين شرح الرسالة إلى أفسس للقديس بولس الرسول ص113-116

[4] ضد الهرطقات7:18:3

 [5] راجع قاموس سترونج تحت ترقيم4637.

[6] التجسد والميلاد فى تعليم آباء الكنيسة ص10

 [7] د.مارك شنودة .الإفخارستيا سر حياة, ,مراجعة نيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل.ص232

 [8] المرجع السابق.

[9] الآب أنتونى م,كونيارس.تحقيق طاقتك الكامنة فى المسيح.ص34.

 [10] الآنبا بيشوى مطران دمياط.كتاب تأملات فى مزمور(131) "اذكر يارب داود",ص5

[11] الآب متى المسكين شرح ودراسة الرسالة إلى العبرانيين,دير ق.الآنبا مقار.ص.291

[12] عظة القديس مقاريوس عن الميلاد مجلة مرقس عدد يناير .1971