2019/07/10

نحن واليهود ولعازر



لعازر، صديق المسيح، الذي من بيت عنيا، قام...

كُثُراً كان الشهود. وقد أقامه يسوع بعد مرور أربعة أيام على رقاده. كان يُفترض به أن يكون قد أنتن. ثمّ قبل الفصح بستّة أيام، وفق ما ورد في النصّ الإنجيلي اليوحنّائي، عملياً قبل تسليم يسوع بقليل، أتى الربّ إلى بيت عنيا فصنعوا له عشاء وكان لعازر أحد المتّكئين معه (يو 12). "فعلم جمع كثير من اليهود أنّه هناك فجاءوا ليس لأجل يسوع فقط بل لينظروا أيضاً لعازر الذي أقامه من الأموات" (الآية 9). بلغ الخبر رؤساء الكهنة، لا سيما من خلال عملائهم، فتشاوروا فيما بينهم ليقتلوا لعازر أيضاً "لأنّ كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع" (الآية 11).

لم يشأ رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة أن يؤمنوا، رغم كثرة البيِّنات والشهادات، لذلك قرروا أن يقتلوا يسوع ولعازر معاً. لم يكن همّهم الشهادة للحقّ ولا أن يعلِّموا ويرعوا الشعب على معرفة الله وطاعته. كان همّهم أن تبقى لهم السيادة على الناس. الإيمان بيسوع كان يعني تحوُّل الشعب عنهم. لذلك الإيمان بيسوع، في وجدانهم، لم يكن وارداً كإمكانية ولا في حال من الأحوال، لا بعجائب ولا من دون عجائب. يسوع كان منافساً لهم. هذا دلّ على أنّهم لم يشاؤوا أن يفهموا بقلوبهم (مت 13: 15) ما سبق أن قاله موسى والأنبياء في شأن تدابير الله ومسيح الربّ. لذا انطبق عليهم القول الوارد في مَثَل لعازر والغني "إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء [أي إن كانوا لا يطيعون موسى والأنبياء] ولا إن قام واحد من الأموات يصدِّقون" (لو 16: 19 – 31).

السيناريو نفسه تكرّر بين اليهود الرافضين في أكثر من مناسبة. تحقيقات اليهود في شأن الذي وُلد أعمى كيف فتح يسوع عينيه، في إنجيل يوحنّا، الإصحاح التاسع، انطوت على تصلّب ورفض كلّي للإقرار بالمعجزة والاعتراف بما صنعه الربّ يسوع. أيضاً وأيضاً، الرؤساء والشيوخ والكتبة، إثر شفاء بطرس ويوحنّا أعرجَ من بطن أمّه باسم يسوع، اجتمعوا وقالوا: "ماذا نفعل بهذَين الرجلَين لأنّه ظاهر لجميع سكان أورشليم أنّ آية معلومة قد جرت بأيديهما ولا نقدر أن ننكر" (أع 4: 16). وبعد التداول قرّروا، لئلا يشيع الخبر أكثر في الشعب، أن يهدّدوهما تهديداً أن لا يكلِّما أحداً من الناس فيما بعد بهذا الإسم (الآية 17). ليست المعلومات ما كان ينقصهم ليؤمنوا بيسوع بل النيّة والتسليم بما هو حقّ. فِكْرُ قلبهم كان نجساً شرّيراً.

هذه مشكلة اليهود ومشكلة كل المتهوّدين بالنيّة والعزم في كل زمان ومكان من ذلك الحين. ليست معرفة ما جاء في الكتب ولا الأحداث هي ما يأتي بالناس إلى معرفة الله والحقّ بل استقامة القلب أولاً. كيف تقرأ لا ماذا تقرأ فقط. المعارف والعلوم مهما كانت راقية ومهما كانت متقدّمة إن هي سوى سفينة محمّلة بالبضائع تديرها دفة صغيرة، هي نيّة القلب، في الاتّجاه الذي يشاؤه مديرها.

لذلك العلم، في ذاته، لا ينفع شيئاً فيما خصّ معرفة الله. ولا اللاهوت النظري، استطراداً، يفيدك في شيء، إن لم تكن، في العمق، على تُقى. بالعكس كلّما كان عِلمُك غزيراً، وكانت نيّتك غير سليمة، كلّما كانت معرفتك أداة خبث بالأكثر، لأنّك، إذ ذاك، تكون قادراً، بطريقة لبقة ذكيّة مُحكَمة، على إقناع الآخرين بوجهة نظرك وتالياً على إفسادهم. تسوق بضاعتك، أي براهينك ومعطياتك، وفقاً لقواعد المنطق الشكلي، لتقود الكثيرين إلى حيث تشاء مقاصدك الملوّثة. العِلم من غير استقامة قلب مجموعة أدوات ضلال وتضليل بامتياز. لست بحاجة إلى غزارة العِلم الكتبي كشرط للمعرفة الإلهية. طبعاً ثمّة قدرٌ من العِلم بما في الكتب ونوعيةٌ لازمة، أثناء المسير، لتعرف ما ينبغي أن تسلك فيه لجهة خبرة الله، ولجهة أصول الحياة الروحيّة. أما هاجس التبحّر بما هو وارد في الكتب وتقديم العِلم النظري كأساس لمعرفة أكمل بالله والمسيح فلا يفضي، في الحقيقة، إلاّ إلى نظريات أكثر وإلى تكهنات أوسع نطاقاً وإلى شكوك أرسخ في ما لله لا إلى معرفة شخصية أعمق به. ما تحتاج إليه، بدءاً، هو قدر يسير نسبياً من المعرفة الكتبيّة المختارة، قراءةً أو سماعاً، والكثير من الخوض العملي في أصول الحياة الروحيّة والسلوك في حياة الفضيلة والأسرار الكنسيّة. إثر ذلك تبدأ تصير من العارفين. يتنقّى داخلك بنعمة الله. تأخذ في معرفة الله كما هو والنعمة ترشدك. قراءة الكتب، خارج نطاق الصوم والصلاة، تنفخ وتؤذي. في ضوء ذلك يصير بإمكانك، إذا ما أقبلت، بشغف، على الكتب، وكان لك الباع، أن تقرأها على حقيقتها، في السياق الموافق لها، وأن تعرفها على نحو نافع سليم. لا تعود تقرأها كأفكار ونظريات بل كحقائق معيشة وكسيرة إلهيّة عمليّة. موقفك منها في العمق يتغيّر. العصا للجاهل أداة للضرب والأذية والتخريب. فقط إذا ما كنتَ من العارفين المتقدّسين، إذا ما اعتملتْ فيك محبّة الله، تكون العصا لديك للمنفعة ومساعدة الآخرين. هكذا كثرة الكتب، لمَن يجهلون الله، وكثرةُ العِلم، تملأ صاحبها غروراً وتشوِّش الناس وتفسدهم. الذين يتّقون الله ويسلكون في تواضع القلب واستقامته هؤلاء هم الذين ينفعون أنفسهم وسواهم في ما يعلِّمونهم إياه وفي ما يقرأونه عليهم ويكتبونه لهم لأنّهم يثبِّتونهم، بالأكثر، في محبّة الله وسيرة التقوى، إذ يوردون لهم سِيَر الآباء وتعليمهم ويبثّونهم السبل التي سار عليها القدامى وما انتجته خبرتهم ومعرفتهم الشخصية بالله ومسيحه ليتشدّدوا.

العقل والعِلم في ذاتهما، عندنا، إذاً، وكذا منتجاتهما، لا ينفعان شيئاً في سبل معرفة الله الحقّانية.

"الجسد لا ينفع شيئاً. الروح هو الذي يحيي" (يو 6: 63). المقصود بالجسد الإنسان كلّه. كل ما للإنسان تراب ورماد، بما في ذلك العقل. العقل لا ينفع شيئاً إذا لم يكن القلب مستنيراً. العقل أداة خطرة. الله لا يُعرَف بالعقل. الله يُعرَف بروح الله. الموضوع هو أن نقتني روح الله بحفظ الوصيّة حتى نأتي إلى معرفة الله كما هو. العقل من دون نيّة قويمة وقلب مستنير أداةٌ نفسانيّة شيطانية مخرّبة في الكنيسة.

أقول ذلك ونُصْب أعيننا، في مطلع الأسبوع العظيم، اليهود الذين كان أئمّتهم علماء ادّعوا أنّهم تلاميذ موسى والأنبياء وأنّ أباهم إبراهيم. لكن أشعياء، كما نقرأ، "رأى مجد [يسوع] وتكلّم عنه" (يو 12: 41). وإبراهيم تهلّل بأن يرى يومه "فرأى وفرح" (يو 8: 56). وموسى قال يسوع لليهود في شأنه: "لو كنتم تصدّقون موسى لكنتم تصدّقونني لأنّه هو كتب عني. فإن كنتم لستم تصدِّقون كُتُبَ ذاك فكيف تصدِّقون كلامي" (يو 5: 46 – 47)؟ ومع ذلك، بالرغم من كل ذلك، لم يشأ اليهود أن يؤمنوا. علماء الشريعة صاروا أبرياء من الشريعة، غرباء عن معانيها. لذلك تقول فيهم ترنيمة الساعة التاسعة من الجمعة العظيمة: "عندما سمّرك الأبرياء من الشريعة على الصليب يا ربّ المجد هتفتَ نحوهم. بماذا أحزنتكم؟ وبماذا أغضبتكم؟ مَن الذي نجّاكم قبلي من الحزن؟ والآن بماذا كافأتموني؟ بدل الخير شرّاً. بدل عمود النار سمّرتموني على الصليب. عوض الغمام احتفرتم لي لحداً. بدل المنّ قدّمتم لي مرارة. وعوض الماء سقيتموني خلاً..." (أيذيوميلا باللحن السابع).

كل ذلك لم يكن القيِّمون على الشريعة واعين له لأنّ حسدهم أعماهم ولأنّ سعيهم للتسيّد، بحسب هذا الدهر، صمّ آذانهم، وعُجْبَهم بأنفسهم أسكرهم. الإنسان الممتلئ من نفسه لا يعود يسمع ولا يعود يحسّ.

أقول ذلك ويرتحل ذهني إلى علماء الشريعة الجدد، إلى الذين حوّلوا ويحوّلون اللاهوت إلى مسعى فكري نظري، كاليهود، وإلى تجارة كلام، ولا تقوى فيهم ولا حسّ الإلهيات. مدارس اللاهوت التي لا تخرِّج قدّيسين تخرِّج مخرّبين. هؤلاء يصدحون بكلام موسى والأنبياء والآباء ولا يعملون عملهم ولا يبالون لا بصوم ولا بصلاة ولا بتقوى وهم متراخون في حفظ الوصيّة. هؤلاء هم المتهوِّدون الجدد الذين يتظاهرون بمعرفة الله فيما يطعنون يسوع بإنجيله إذ يفسِّرونه على هواهم، ويصلبونه بقدّيسيه وتعليمهم إذ يحوِّرون ما قالوه، ويحوّلون الخلاص إلى مماحكات كلام. يؤمنون بعقولهم ولا يؤمنون بيسوع. وفي النتيجة ينحرون السيّد ويقتلون تلاميذه، نظير اليهود، ولكنْ بالروح، وهم يدّعون أنّهم يقدّمون عبادةً لله (يو 16: 2) وحداثة.

لا نحسبنّ أنّ الذين أسلموا يسوع إلى الصّلب قد ولَّوا. هؤلاء لا زالوا قائمين فيما بيننا. يسوع صُلب مرّة بالجسد لكنّه بالنيّة يُصلب، في بعض خاصته، في كل عصر. رغم ذلك نقول ونردّد: "ليقم الله ويتبدّد جميع أعدائه ويهرب مبغضوه من أمام وجهه" موقنين أنّ قيامة يسوع مستمرة في الذين هم له إلى الدهر.

فـ "قمْ يا الله واحكم في الأرض لأنّك ترث جميع الأمم"!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما