2015/10/04

ما بَيْنَ اللَّاهوت والغُنُوسِيَّة,(مقالات في اللَّاهوت.ج.3).

ما بَيْنَ اللَّاهوت والغُنُوسِيَّة,مقالات في اللَّاهوت.
  •         دائمًا وأبدًا ما يندفع الإنسان من ذاته,أو تدفعه هيَ لخوض رحلة بحثٍ عن الله.ولهذه الرحلة سماتُها التى تُميِّزها عن دونِها.فدائمًا ما تَتَّسِم بالشَوْقِ والإثارة,النابعة من شئٍ ما مجهولٍ,  يجهله الإنسان,وما يجهله الإنسان هو المُسَبِّب الأساسى لمشاعره السابقة من شوقٍ وإثارة.
  •  فالإنسان يبحث وكُلَّمَا تَوَصَّل ,ويَظُنُّ  إنه قد أدرَكَ [!]فيكتشف إنه لم يُدرِكْ شيئًا . ومازال ما أدركَهُ هو المجهول بعينه.و.في هذه اللحظة يزداد إتضاعًا,وفي إتضاعِهِ تلتهب أشواقه,وتتزايد إثارته.بل إنَّ الإنسان كُلَّما إتَّضَعَ يكتشف إنه مازال مغرورًا,وفي غروره المُتَّضِع يندفع دفْعًا لكي ما يروي أشواقه.يرويها من خلال التفتيش والتنقيب في بَوَاطِن وأسرار الله .فلا يهدأ حتَّى يُدرِكَ هذه الأسرار,ولنْ يستريح حتَّى ينبِشَ جميعَ السرائِرِ.
  • فيظل يُفتش ويِنبُش ولنْ يهدأ له بالٌ فللأسرار صفةٍ إلهية.والألوهة غير محدودة.وهُنا يتقابل الإنسان,أو يصطدم مع إمكانياته ومُعطياته المحدودة.والصِّدام هُنا بين المحدود الذي يُريد إمتلاك الغير محدود,و هُنا محور الشوقِ والإثارةِ.بل ولوعتها.
  •  فمن يِجتاز هذه الرحلة عليه أن يعلمَ إنه سينتهى إلى اللاشَيْء.سينتهى إلى المجهول,فإن كان الله غير محدودٍ فهو ذاك اللاشيء الذي سينتهى إليه الإنسان.وبحسب لغة البشر فهذا يُعَدُّ تقليل من قيمة الله,ولكن بحَسَبِ الفَهْم اللَّاهُوتي فحقًا لا يوجد وصف أدَقٌّ من هذا,فالله ليس بشيءٍ,ولا يُشبهه شيءٌ .فحينما نقول إن هذه الرحلة تنتهى إلى اللاشيء فهذا لا يُعني إن لهذه الرحلة نهاية.وهذا ما دفع ق. غريغوريوس النزينزي أن يقول:ـ[مَن يسلك هذا الطريق ويخال في وقت ما إنه قد عرف الله يكون ذهنه فاسدًا][1].
  •  وكُلُّ ما يجهله الإنسان هو كُلُّ ما غاب عن ذهنه,وغياب هذا الأمر هو في حدِّ ذاتِهِ الظلمة.وحالُنا ليس أفضل من حال مو سى النبى الذى وصْفِه  ق.غريغوريوس قائلاً:[ لأن مَنْ يطلبه يفوق كل معرفة,تحجبه لا إمكانية إدراكه من كل جهةٍ كما لو كان في ظلام][2]. فإن صعدنا نحن جبال المعرفة فسنواجه هذه الحقيقة.أو قول يصطدم غرورنا بهذا الواقع الذى نحاول تجاهله.
  • وفي وصف حال ق.يوحنا الحبيب حينما حاول الدخول إلى هذا المجهول المُظلم,يقول ق.غريغوريوس:ـ[ولهذا يقول يوحنا الملائكي الذي دخل في تلك الظلمة النيِّرة"الله لم يراه أحد قط"محددًا بهذا النفي أنَّ معرفة الجوهر الإلهي ليست في مُكنَةِ البشر وحَسبُ,بل ليست فى مُكنَةِ أيِّ طبيعةٍ عقليَةٍ أيضًا,وهكذا عندما تَقَدَّمَ موسى في المعرفة أعلن أنَّهُ يرى الله في الظلام.أي انَّه عَرَفَ أن الألوهة تفوق جوهريًا كلَّ معرفة (أدرية)[3].
  • لذلك فنحن في حاجة إلى مُصطلح"الظُلمات الإلهية",لكي ما نقدر أن نُدرِكَ و نتدارَكَ عجزنا[!]ويبدو إنَّ هذا المُصطلح مُخالف لما تعلمناه في الإنجيل إن الله هو [نور],ولكي لا يخطئ القارئ الظن بي فأود أن أوضح إنني لم|ولن أقصد أن أقول إن الله فيه ظُلمة او ما شابه ذلك.بل كل ما أقصده هو جهلُنا بهذا الإله العظيم,فعظمته في كونه مجهول.غير مُدرك من قبلنا.وكما ذكرنا فهذا هو مصدر الشوق والإثارة بالنسبة لنا. فالظلمة التي أتكلم عنها ما هيَ إلَّا ظُلمة جِهلنا.
  •  لذلك فأي معرفة عن هذا المجهول|الله.لاتكون من خلالِنا نحن ,بل تكون من قِبَلِ الله.لهذا فحَسَبْ اللَّاهوت الشرقي نقول إنَّ هذه المعرفة ما هي إلا نعمة من الله.فيقول فلادمير لوسكى:ـ[الله المجهول لا نقتنيه اَّلا بالنعمة..هذا الوعي هو إذًا خبرة بقاء ولقاء مع الله ..الإعلان الشخصي وبفعل النعمة تحقَّقَ موسى وبولس من إستحالةِ معرفة الله. الاول عندما ولج ظلمات تعذُّرِ البلوغ الى الله والتاني عندما سمع الكلمات التي تعبِّر عن عدم قابليته للوصف][4] .
  • وإن كان هذا المُصِطلح يبدو صعبًا على مسامع البعض,فكيف يكون نور العالم موجود في الظُلمات؟حقًا إنَّه إعتراض على قدرٍ من الصواب,ولكن علينا أن نعلم إن الظلمة عند الرب ليست هيَ ظُلمة,فكما يقول المُرنم؟؟[ حَتَّى الظُّلمَةُ لَيسَت ظُلمَةً عِندَكَ واللَّيلُ يُضيءُ كالنَّهار. [[مز12:139].
  •  فإن كانت الظُلمة لها معنى سيء لَدَى البعض-وهذا غير موجود عند الرب- فعليْنا أن نُصيغ هذا السيء  في قالبٍ من الجمال,فالظلمة هي غياب النور,فهذا مفهوم أهل هذاالعالم,وعلى المسيحي أن يتجرد من مفاهيم هذا العالم ,بل ويصنع معنى جديدًا لما تعلمه في هذا العالم, وكما يقول(الآب فرانسوا فاريون اليسوعي):ـ" فالمسيحي هو القادر على إضفاء معنى ثانٍ,أعمق بكثير,على ما كان له معنى,القادر على إضفاء معنى على ما لا معنى له"[5],والمعنى الذي ينبغى أن يُضفَى هُنا هو ما قاله المُرنم[الظُلمة ليست ظُلمة][مز139: 12].
  •  وهُنا نقدر أن نصيغ الظُلمة ونُضفي عليْها جمالاً نتخذه من جمالِ إلهِنا,فالظُلمة المقصودة هُنا هي عدم القدرة على الإلمام بالرؤية . التي من خلالها نرى الرب.وهُنا,- وهُنا فقط - نكون قد صِغْنا هذه الكلمة بمعنى يكشف لنا ونكتشف معه جمال إلهنا الذي لم ولن نقدر البلوغ إليه,أو بمعنى أدق لانقدر أن   نبلغ المنتهى فيه,إنها الأبدية.ولا مُنتهى لها,الأبدية التي نحياها فيما بعد,أو قُل نحيَا فيها الأن وتمتد حياتنا فيها حتى بعد خروج الروح من جسدنا.
  • إنْ كان هذا هو القصد,فحسنًا [!]بل وحسنًا جدًا.فقد بلغنا إلى معنى مختلف تمامًا,فنحن الآن على أعتاب الحديث عن[الظُلمة النيرة],من ظلمة الجهل إلى ظلمة المعرفة,وهذا هو التصوُّر المُسيطر عليَّ .فكُلَّما إكتشفنا الظُلمة,كُلَّما تزايد صراخُنا(صلاوتُنا),وكُلَّما تزايد صِراخُنا(صلواتُنا),كُلَّما إنتهت الظُلمة(الجهل)من حياتِنا. ولهذا فالصلاة هيَ إنفتاح على المجهول,الولوج في الظُلمة النيرة,ولهذا فنحن نقول إن الصلاة هيَ باب المعرفة,أو قُل هي المدخل إلى الغُنُوسية.
  • ولعل هذا يقودنا إلَى نقطة أخطر وأعمق خلال إقترابُنا من العُليقة المُشتعلة[!]وهيَ علاقة اللَّاهوت بالغُنُوسية. فإن كانت الغنوسية Gnosticismهي "حُبُّ المعرفة"[6],فهذا الحُبُّ من أين يبدأ؟وإلى أيْنَ ينتهي؟
  •  لعَلَّ ما دوَّنه القديس يوحنا الحبيب في[يوحنا17]هوَ أفضل معنى للغُنُوسية المسيحية-إن صَحَّ هذا التعبير الذي يرفضه البعض-فيقول[هذه هيَ الحياة الأبدية,أن يعرفوكَ...]وكلمة معرفةهنا هي γινώσκωσιν,فالغنوسية الحقيقيةوليست الزائفة هيَ التي تهدف إلى الوصول بنا إلى معرفة الله .حق معرفةٍ.
  •  ومن أغرب المعاني التي نقدر أن نتعرف عليها في معنَى الغنوسية ,إن الغنوسية هى unaware [عدم الإدراك][7],وأظن إن هذا المعنى هو الأقرب لِى من أي معنى أخر..ويكون قصد القديس يوحنا هو إن الحياة الأبدية هيَ حياة عدم الإدراك,والحديث هُنا عن الإدراك الكُلى,وهذا ما لايُمكن أن يحدث,فنحن حاليًا نعيش في الإدراك الجُزئي,وبعد الموت سيظل إدراكُنا جزئي.
  • وهذا الإدراك الذي نسعى إليه هو قائم بالأساس على المُعاملة والتبادُل بيننا وبين الثالوث القدوس.وهذا التعامُل وهذا التبادُل هُما نوعاً من الخبرة ,الخبرة التي يكتسبها الإنسان,ولهذا فنحن نقول:[ ليس هُناك لاهوت خارج نطاق الخبرة,فعلينا أن نتغير لنصير إنساناً جديداً لكي نعرف الله,علينا أن نقترب منه ,ولسنا لاهوتيين إن لم نَسِرْ على طريق الإتحاد بالله,وسبيل المعرفة هو بالضرورة سبيل[التألُّه]. فهذا هو المصطلح المميَّز الذي استُخدم في الفكر اللَّاهوتي الآبائي المدوَّن باليونانية للتعبير عن إعطاء الله ذاتَهُ للجنس البشرى بالمسيح وفي الروح القُدُسِ....[8].
  • وفي هذه الحالة نقدر أنْ نقول إنه لا مكان ليسوع على منابر الوعظ,ولا ذِكر له في أفواه الواعظين.فسيكون الجميع مُتمسِّكاً بالمفهوم الصحيح لشخص الثالوث المُبارَك,وهو [الحياة]ستُسد أفواه الوعاظ.ستتحول عِظاتُنَا إلى حياة نحياها.وما الحياة سوى الرب يسوع,
  • سيتحول الثالوث من موضوع العظة –مع إن الله ليس موضوع ولا قضية ولا نظرية- سيتحول هذا إلى عظة نحياها قبل أن نذهب لكنيسة لنستمع إليها, وتتحول حياتُنا إلى عظة دائمة.غير محصورة في جدران الكنيسة ويومٍ في الأسبوع.
  •  فإذا تيقَّنَّا مما سبق فلن نعود نطرح الله[كقضية]وموضوع لأن الأمر لا يتعلق بالمعرفة في حد ذاتها.بل في الإتحاد الصوفى بالله الذي تبقى طبيعته فوق معرفتنا[9].


النعمة معكم
مينا فوزي...


[1] فلاديمير لوسكى:بحث في اللَّاهوت الصوفي لكنيسة الشرق.ص32.
[2]ق.غريغوريوس النيصي: أقدم النصوص المسيحية,حياة موسى النبي أو الكمال في مجال الفضيلة.ص90.
 [3]المرجع السابق.ً90.
[4]فلاديمير لوسكى:بحث في اللَّاهوتِ الصوفي لكنيسةِ الشَّرقِ.ص29
[5]الآب فرانسوا فاريون اليسوعي [فرح الإيمان بهجة الحياة ]محاضرات في أهم القضايا الإيمان المسيحي ص7.
 [6]ولا أقصد تلك الطائفة التي حاربتها الكنيسة في القديم بل أقصد حب المعرفة الإلهية في ذاته,لقد إستخدم القديس يوحنا الحبيب لفظة[غنوسية]في شرحه لمعنى الحياة الأبدية[راجع يوحنا17].
[7]قاموس Strong'  تحت ترقيم1097.
 [8]الإيمان بالثالوث الفكر اللاهوتي الكتابي للكنيسة الجامعه في القرون الأولى توماس ف تورانس ص205 .
 [9]بحث في اللَّاهوت الصوفي لكنيسة الشرق,فلادمير لوسكى.ص32.