2016/11/28

التفرقة بين ما هو ثابت وما هو مُتغير[ج1.العقيدة الأرثوذكسية].




  • مُشكلة الكنيسة اليوم أو مُشكلة البعض فيها, هو عجزه على إدراك ما هو ثابت وما هو مُتغير, فأصبحت المتُغيرات لدى البعض ثوابت, ثوابتٌ راسخةٌ رسوخ العقيدة فى الوجدان.وأصبح التخلى عنه فى نظرهم يُعِدً هرطقة وإبتداع.

  • لذلك علينا أن نُدرك أن هُناك مُصطلحان ينبغى أن نُفرق بينهم, ويجب تفريقهُم بعضهم عن بعض[!] وهذان المُصطلحان هُما "العقيدة "و " اللاهوت " فالخلطُ بينهُما قد أدى بنا,ونحن أعضاء أُسرة واحدة لإتهام المُختلف معنا فى نفس ذات الأُسرة بتُهمة الهرطقة والإبتداع.

  • كما لو كان هؤلاء يترقبون  أن يخطئ هذا الأخر[الذى ليس بأخر بل من نفس ذات الأُسرة] لكى ما نشمتُ فيه, ونُسجل نصرًا - لدين الله -  الأرثوذكسى, ونُنقى الأرثوذكسية من هؤلاء الهراطقة[!]وإنى أزعُم أن الأرثوذكسية من هؤلاء براءُ, فالأرثوذكسية لا تُعنى الإستقامة فقط, بل هي في معناها الدقيق "الصلاةٌ المُستقيمة" فكلمة "ذوكسا" (doxa) تعنى تمجيد وصلاة وتسبيح, وكلمة "أرثو"(ortho) تعنى" الإستقامة".

  • فإن كان هذا هو المعنى الأسمى لها, فعلينا نحنُ مُدعِى الإستقامة أن تكون صلاتُنا مُعمدةً بالمحبة أولاً, ونُنَاقش المختلف معنا لا أن نضع على رقبته سيف التخطئة والهرطقة . فإن تمت التفرقة بين هذين المُصطلحين فسترسي الكنيسة قواعد لاهوتية أرثوذكسية دقيقة, وستزول كُل مشاكل الكنيسة الحالية.

  • فكُل ما هو ثابت ولا يُمكن أن يتغير هو "عقيدة " (δόγμα ). وهي كلمة يونانية تأتي من الفعل اليوناني: (ذوكيو (δόκεῶ.بمعنى "رأَيٌ، اعتقادٌ, حكمٌ". وكذلك فالعقيدة تعني قرار رسمي من سيادة عُليا[1] ومن حاول تغيرُها فهو مُبتدعُ ومُهرطق, لأنه حاول تغيير أمورٍ عقائدية ثابتة بدونها ينهارُ ركاب الأرثوذكسية بل والمسيحية ذاتِها.[2]

  • ومن ضمن هذه الثوابت:ـ "الإيمان بأن الله ثالوث فى واحد, و لاهوت الرب يسوع كأقنوم ثانى, والإيمان بتجسده, وموته, وقيامته, وصعوده, والإيمان بضرورة المعمودية وسر الإفخارستيا[3].

  • فالعقيدة هي إعلان الله عن طبيعته, وهي أمر حقيقى, ثابت, غير مُتغير. لذلك فالإيمان المسيحى هو إيمان ثابت، غير مُتغير. فالعقيدة تكشف لنا عن علاقة الله والإنسان,وتلخص الكنيسة العقيدة المسيحية في "قانون الإيمان".لذلك فالعقيدة هي التعبير عن الأفكار والمبادئ الأساسية التي لا غنى عنها[4].

  • في العصر الحديث سُمِّيَتْ العقيدة ب(اللَّاهوت الأيجابي),(اللَّاهوت النظامي),(اللَّاهوت النظري, اللَّاهوت التعليمي,التعليم فقط),واتخذت الاسم النهائي  في بداية ق12 على يد Buddeus وعرفت باسم اللَّاهوت العقيدي[5].
  • أما ما هو مُتغير وقابل للتغير  فنُطلق عليه مُصطلح Θεολογια, وهى كلمة كلمة يونانية مكونة من مقطعين (θεος+λογια) .(logia+ Theos) فكلمةTheosأي الله أو الإله، وكلمة  logiaأي "قول" أو "كلمة".
  • وبالتركيبة السابقة تُعني "معرفة الله"[6],وهي في الأساس مصطلح غير مسيحي, فإستخدمه أفلاطون(ق4قبل الميلاد)بمعنى "محادثة عن الله"[7]. أو التأمل في أقوال الله. بينما "اللَّاهوت"في الفكر المسيحي الآبائي هو"علم اللقاء مع الإله"وليس التكلم عنه فحسب. ويقول العالم "ريتشارد هوكر RichardHokar" إنه علم الأشياء المتعلقة بالألوهية[8].

  • فإن كانت العقيدة هي الثوابت والحقائق, واللَّاهوت هو اجتهادٌ بَشَري لتفسير العقيدة والكتاب المقدس [9]. وهذا اللَّاهوت يختلف من عصر لآخر, حسب ثقافة العصر والحضارة المكانية. فلكل مُفسِّر فكره الشخصي الذي يقوم من خلاله بشرح العقائد الثابتة[10]. وهذا الإختلاف مقبول ولكن يُشترط أن لا يتعارض مع ثوابت العقيدة.

  • فالعقيدة تفترض أكثر من مستوى في الشرح. لذلك فالكنيسة الجامعة الأرثوذكسية خاصة صاغت "عقائدها " في قانون الإيمان ولم تصيغ شرح لهذا القانون. ورغم ذلك فإننا نجد آباء كثيرين قاموا بشرح قانون الإيمان[11].ولكُل منهم إسلوبه الخاص.

  • ولهذا نجد اختلافًا بين آباء الكنيسة في بعض الأمور, وهذا الاختلاف نابعٌ من اختلاف الثقافة والبيئة, وأسلوب تفكير كل منهم. وهذا الاختلاف ما هو إلَّا تنوُّع , ولا يخرج عن كونه "اختلاف"..والاختلاف يكون في الأمور التي يُسمح بالاختلاف فيها. وإلَّا تحول الاختلاف إلى هرطقة.
  • وهذا على عكس البدع والهرطقات. فهي اختلاف في العقائد وليس في الشرح. فمثلاً"عقيدة الإله الواحد في ثالوث" قد يختلف الآباء في شرحها عن طريق(قرص الشمس.ذات الإنسان...إلخ) ولكن لايقدر أحد من الآباء على نفى الثالوث. أو ينسب لأحد الأقانيم "الدونية" عن الأخر[12]
  • فحينما قال "آريوس"إن الإبن أقل من الآب وقف أمامه جميع آباء الكنيسة. فهذا ليس اختلافًا في الشرح. بل صياغة عقيدة جديدة للثالوث و تشويه لأساس العقيدة. فأدانت الكنيسة آريوس وأتباعه.
  • فعلينا بدلاً من التراشق بالإتهامات والتخوين, علينا أن نُدرك أين تكون الثوابت وأين يُمكنُنا ان نختلف, وأين يكون إختلافُنا مقبول ومتى يكون هرطقةٍ ومن ثُم مرفوضاً..
عَلَى كُلٍ فَهَذَا المَقَالُ مُجَرَّدَ شَرحٍ لِرُؤيَتِى الشَّخصيَّةِ وليس عقيدة أو ثوابت , فَإِن لَم يُعجِِبْكَ فَلَا تَرشُقَنِى بِالهَرطَقَةِ أَو الابتِدَاعِ.
النعمة معكم 
مينا فوزى 




[1]Henry George Liddell, Robert Scott, A Greek-English Lexicon, at Perseus
[2] لهذا السبب حكمت الكنيسة على أريوس ونسطور وسابليوس وغيره بالهرطقة والإبتداع,لأن الاول شكك فى لاهوت اقنوم الابن,والثانى شكك فى حقيقة الاتحاد بين طبيعتى المسيح,اما الاخر فقد شكك فى الاقانيم الثلاث.
[3] هذين السرين هُما السرين اللذان أرستهم الكنيسة الأولى كثوابت وأساس للأسرار الكنسية, الغير محصورة فى عددٍ.(للمزيد حول موضوع أسرار الكنيسة راجع بحثُنا المعنون"أسرار الكنيسة دراسة تاريخية)
[4]د.جورج عوض:تاريخ العقيدة,ص13.
[5]د.موريس تاوضروس:علم اللَّاهوت العقيدي .ج1,ص9.
[6]المؤلف, المدخل إلى علم اللَّاهوت,مراجعة القمص عبد المسيح بسيط ابو الخير  ص37,36.
12[7] Oxford English Dictionary, sense 1
[8]المدخل إلى علم اللَّاهوت,ص37.
[9]وهذا الإجتهاد نابع من إعلان الله عن ذاته.سواء في الكتاب المقدس أو إعلان شخصي للَّاهوتى.وربما يختلف إعلان الله الخاص من شخص إلى أخر.
[10]وبعد الإنفصال الذي حدث في مجمع خلقيدونية,أصبح لكل كنيسة لاهوتها الخاص(لاهوت أرثوذكسي,كاثوليكي),وبعد ظهور حركة الإصلاح أصبح هُناك اللَّاهوت البروتستانتي .وكلٌ منهم هو نوع من شرح العقيدة .دون الإختلاف على العقيدة.
[11]راجع دفاع ق.أثناسيوس عن قانون الإيمان,وشرح الإيمان للقديس امبروسيوس.
[12]هذه بدعة تُعرف ب"بدعة التبعية"ومضمونها إن هُناك أقنوم أقل من الأخر والثالث أقلهم..