2015/08/23

من تفسير أبونا متى لرسالة غلاطية







  • والعمق من الإحساس والموافقة اللاهوتية لحقيقة الخلاص يحتِّم أن يخلع الإنسان ما ترسَّب في ذهنه هذه السنين بل هذه الأجيال من حاجته الملحَّة لاسترضاء الله بالأعمال.
  • لأن الإنسان في صميم حقيقته أضعف من أن يستوعب قوة الخلاص وفعل النعمة وعظمة المصالحة. لذلك نحن نصلِّي، ونود القارئ أن يصلِّي، لدى المخلِّص والفادي العظيم أن يأخذ بيد الضمير ليعيش حقاً في نور نعمة الخلاص وقوته، مستمداً من المخلِّص نفسه فعل الخلاص وضميره - ليصير الإيمان بحد ذاته قوة تجرُّ الأعمال وراءها. ولا يعود لنا بعد ضمير خطايا مميتة!!


  •  عزيزي القارئ إن كان هذا الأمر كما تراه صحيحاً أفلا يُحسب الإنسان المسيحي الذي آمن بالمسيح ونال البر والغفران المجاني ودخل مع الله في مصالحة وشركة حياة أبدية، ألا يُحسب أنه يجدِّف على الصليب والغفران المسيحي المجاني، بل ويستهزئ بالإيمان المسيحي إن هو ظنَّ أن بالأعمال التي يعملها مثل الصوم أو الصدقة والسهر وقرع الصدر والسجود والتواضع والتذلّل حتى التراب، يتبرَّر أمام الله أو يتزكى بها لدى الله ويتقرَّب؟! لأن الإنسان لا يتبرَّر بأعماله قط ولكن يتبرَّر بالإيمان بالمسيح، والإيمان بالمسيح يتزكَّى فقط أمام الله: [الآب نفسه يحبّكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت ](يو 27:16). وتغفر خطاياه ويتصالح مع الله ويدخل في شركة المحبة وينال الحياة الأبدية.
  • فما هي إذن أعمال الصلاة والصوم والصدقة والسهر وقرع الصدر والسجود والتواضع والتذلل أمام الله؟ هل هي أعمال خاطئة أم هي ضلالة كما يقول المتحرِّرون؟ أو هي نافلة وليست بذي قيمة؟ أو هي نقص في الإيمان وضعف في المعرفة؟ اسمع إذن ما هي هذه الأعمال:
  • لا يوجد إيمان مسيحي ليس له أعمال!! فأعمال الإنسان تكشف عن صدق إيمانه وحرارته ولكن الأعمال مهما صدقت ومهما عظمت حتى وإلى تقطيع الجسد فهي وحدها لا تبرر الإنسان أمام الله أو تقرِّبه إليه، لأن المسيح هو الذي مات وذبح ذاته لحساب الخاطئ، وموت المسيح هو موت ابن الله من أجل الإنسان، وهذا الموت قبله الله فدية كاملة عن كل خطايا الإنسان.
  • ولا يساوي موتَ ابن الله أيُّ عمل مهما كان ولا كل أعمال كل إنسان ولا حتى موت الإنسان، لأن الإنسان هو خاطئ، وموت الخاطئ لا يبرره أبداً لأنه يُحسب له عملاً ميتاً لإنسان محكوم عليه بالموت. ولكن عمل ابن الله بالموت الذي ماته حُسب أمام الله مساوياً لحياة كل البشر المحكوم عليهم بالموت لأنه هو الحياة نفسها ومعطي الحياة.
  • فالمسيح مات بجسد الإنسان ثم أقامه حيًّا لأنه هو الحي الدائم القدوس واهب الحياة. فموت المسيح بجسده القدوس وهو لم يعمل خطية قط حُسب كفَّارة لكل خطية لكل إنسان، ومساوياً للحياة الأبدية التي فيه. فموت المسيح بالجسد على الصليب حُسب كفَّارة لكل خطايا الإنسان، ومَنْ آمن به ينال الحياة الأبدية وتُمحى كل قوة خطاياه مهما كانت. ومع الإيمان بموت المسيح وقيامته لا يُحسب أي عمل يقوم به الإنسان أنه مكمِّل بل يُحسب تجديفاً إن ظنَّ الإنسان أنه يبرِّره، وكأن موت المسيح - ابن الله - يحتاج إلى إضافة من طرف الإنسان ليكمِّل به خلاصه.
 
  • فالأعمال في الحياة المسيحية تكشف عن بر الإنسان الذي ناله بالإيمان بالمسيح وحرارة الإيمان تظهرها حرارة الأعمال. والفرق بين صوم الإنسان المؤمن حقاً والذي يتبرر بالإيمان فعلاً وبين الأعمال لإنسان يظن أن بأعماله يتبرَّر وينال الخلاص هو كالآتي:
  • أعمال الإنسان الذي يؤمن أنه تبرَّر بموت المسيح وغفرت له خطاياه ونال الحياة بقيامة المسيح يكون صومه معمولاً بطاقة روحية مملوءة فرحاً وتهليلاً ورجاءً كمَنْ يقدِّم بالصوم الشكر لله ويعترف بفضله، ويشرح بنشفان ريقه أقصى تعبير عن الإيمان الذي هو أقوى من الموت، والحب الذي يساوي الحياة التي نالها، وعند هزال جسده وعينيه الغائرتين من الصوم يعرض علناً أنه كان ميتاً وعاش وغلب بالإيمان أعمال الموت وساد عليه بإرادته، أمَّا الصوت الخافت الذي لا يكاد يُسمع والحنجرة التي فقدت سطوتها وعزتها من شدة الصوم فهي تسبحة مكتومة وتعبير عن قوة الفرح بأجمل نغم، وأمَّا اللسان الذي اختار الصمت مرغماً من شدة تعب الصوم فصومه تسبحة ترددها الأجيال في سيرة تحفظ.

  • وأمَّا صوم طالب التبرير والخلاص بالأعمال، فصومه يكمِّله بعبوسة الوجه، يعدّ له الساعات وربما الدقائق حتى ينتهي منه بفارغ الصبر، فلا يجني من ورائه إلاَّ الافتخار بعدد أيامه وحسب. لا يشعر فيه أو بعده بفرح للروح أو بهجة القلب، ولا يستطيع أن يتمِّم منه تأملات بالروح أو يرتفع به إلى مراقي الحب الإلهي أو التمتع بعشرة الروح. فضعف الجسد بدون برّ المسيح يأكل من قوة الروح، والانحصار في الجوع بدون الفرح ببرّ المسيح يحبس مخارج النفس والروح فلا تقوى على الدخول في الإلهيات.
  • هذه مجرد عيِّنة من عمل الصوم كيف ببر المسيح تطير النفس بأجنحة من ضعف الجسد وفراغ البطن عند الذين جمعوا الصوم مع بر المسيح المجاني، وفي الأخرى كيف غطست الروح وساخت النفس تحت وطأة الجوع فلا نالت بر المسيح ولا نالت برًّا من عمل ذلك عند المستندين على جهدهم، فاختفى عنهم البر المجاني والإيمان معاً وخُذِلَ منهم حتى الجسد.
  • لذلك نقول للمسيحي الآن، إن كان ليس لليهودي أن يتبرَّر بأعمال الناموس بعدما جاء المسيح ومات بالناموس للناموس، أصبح من الحماقة أن يطلب المسيحي - الذي هو بلا ناموس أصلاً - والذي اعتمد ومات عن الناموس القديم بكل أعماله أن يعود وينشئ لنفسه ناموساً للأعمال الاجتهادية ليتبرَّر بها بعد أن نال بر المسيح المجاني للغفران من كافة الخطايا. لأن بر الإنسان يلغي بر المسيح، بل إن بر الإنسان يحسب خطية جديدة وتجديفاً على موت المسيح الكفاري كأنه لا يقوى على غفران الخطايا.

 [شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية.رسالة دفاع عن حق الإنجيل.ص179-181 ]