2016/05/11

الظُلمات الإلهية




الظُلمات الإلهية

  • دائماً وأبداً ما يندفع الإنسان من ذاته,أو تدِفعه هي لخوض رحلة بحث عن الله.ولهذه الرحلة سماتٍ تُميزها عن دونها.فدوماً ما تتسم بالشوق والإثارة,النابعة من شئً ما مجهول  يجهله الإنسان,وما يجهله الإنسان هو المُسِبب الأساسى لمشاعره السابقة.
  • فالإنسان يبحث وكلما توصل ,ويظن نفسه إنه قد أدرك [!]فيكتشف إنه لم يُدِرك شئ.ومازال ما أدركه هو المجهول بعينه.و.فى هذه اللحظة يزداد إتضاع,وفى إتضاعه تلتهب أشواقه,وتتزايد إثارته.بل إن الإنسان كُلما إتضع يكتشف إنه مازال مغروراً,وفى غروره المُتضع يندفع دفعاً لكى ما يروى أشواقه.يرويها من خلال التفتيش والتنقيب فى بواطن وأسرار الله.فلا يهدأ حتى يُدرِك هذه الأسرار,ولن يستريح حتى ينبش جميع سرائر الله.
  • فيظل يُفتش ويِنبُش ولن يهدأ له بالٍ فللأسرار صفةٍ إلهية.والألوهة غير محدودة.وهُنا يتقابل الإنسان,أو يصطدم مع إمكانياته ومُعطياته المحدودة.والصدام هُنا بين المحدود الذى يُريد إمتلاك الغير محدود,و هُنا محور الشوق والإثارة.
  • فمن يِجتاز هذه الرحلة عليه أن يعلم إنه سينتهى إلى اللاشئ.سينتهى إلى المجهول,فإن كان الله غير محدود فهو ذاك اللاشئ الذى سينتهى إليه الإنسان.وبحسب لغة البشر فهذا يُعد تقليل من قيمة الله,ولكن بحسب الفهم اللاهوتى فحقاً لا يوجد وصف أدق من هذا,فالله ليس شئ,ولا يُشبهه شئ.فحينما نقول إن هذه الرحلة تنتهى إلى اللاشئ فهذا لا يُعنى إن لهذه الرحلة نهاية.وهذا ما دفع ق. غريغوريوس النزينزى أن يقول:[من يسلك هذا الطريق ويخال فى وقت ما إنه قد عرف الله يكون ذهنه فاسداً][1].
  • وكُل ما يجهله الإنسان هو كُل ما غاب عن ذهنه,وغياب هذا الأمر هو فى حد ذاته الظلمة.لذلك فى وصف  ق.غريغوريوس لحال موسى  حال صعوده الجبل هو:[ لأن من يطلبه يفوق كل معرفة,تحجبه لا إمكانية إدراكه من كل جهةٍ كما لو كان فى ظلام][2].
  • وفى وصف حال ق.يوحنا الحبيب حينما حاول الدخول إلى هذا المجهول المُظِلم,يقول ق.غريغوريوس:ـ[ولهذا يقول يوحنا الملائكى الذى دخل فى تلك الظلمة النيرة"الله لم يراه أحد قط"محدداً بهذا النفى أن معرفة الجوهر الإلهى ليست فى مُكنةِ البشر وحَسبُ,بل ليست فى مُكنة أى طبيعة عقلية أيضاً,وهكذا عندما تقدم موسى فى المعرفة أعلن أنه يرى الله فى الظلام.أى انه عرفَ أن الالوهة تفوق جوهرياً كل معرفة (أدرية)][3].
  • لذلك فنحن فى حاجة إلى مُصطلح"الظُلمات الإلهية",لكى ما نقدر أن نتدارك عجزنا[!]ويبدوا إن هذا المُصطلح مُخالف لما تعلمناه فى الإنجيل إن الله هو [نور],ولكى لا يخطئ القارئ الظن بى, فأود أن أوضح إننى لم|ولن أقصد أن أقول إن الله فيه ظُلمة او ما شابه ذلك.بل كل ما أقصده هو جهلُنا بهذا الإله العظيم,فعظمته فى كونه مجهول.غير مُدرك من قبلنا.وكما ذكرنا فهذا هو مصدر الشوق والإثارة بالنسبة لنا. فالظلمة التى أتكلم عنها ما هيا إلاظُلمة جِهلى.
  • لذلك فأى معرفة عن هذا المجهول|الله.لاتكون من خلالُنا نحن ,بل تكون من قِبْل الله.لهذا فحسب اللاهوت الشرقى نقول إن هذه المعرفة ما هي إلا نعمة من الله.فيقول فلادمير لوسكى:ـ[الله المجهول لا نقتنيه الا بالنعمة..هذا الوعى هو اذا خبرة بقاء ولقاء مع الله الاعلان الشخصى وبفعل النعمة تحقق موسى وبولس من استحاله معرفة الله, الاول عندما ولج ظلمات تعذر البلوغ الى الله والتانى عندما سمع الكلمات التى تعبر عن عدم قابليته للوصف][4] .
  • وإن كان هذا المُصِطلح يبدو صعباً على مسامع البعض,فكيف يكون نور العالم موجود فى الظُلمات؟حقاً إنه إعتراض على قدرٍ من الصواب,ولكن علينا أن نعلم إن الظلمة عند الرب ليست هي ظُلمة,فكما يقول المُرنم؟؟[ حَتَّى الظُّلمَةُ لَيسَت ظُلمَةً عِندَكَ واللَّيلُ يُضيءُ كالنَّهار. [[مز12:17].
  • فإن كانت الظُلمة لها معنى سئ لدى البعض-وهذا غير موجود - فعلينا أن نُصيغ هذا السئ  فى قالبٍ من الجمال,فالظلمة هي غياب النور,فهذا مفهوم أهل هذاالعالم,وعلى المسيحى أن يتجرد من مفاهيم هذا العالم , وكما يقول(الآب فرانسوا فاريون اليسوعي):ـ" فالمسيحى هو القادر على إضفاء معنى ثانٍ,أعمق بكثير,على ما كان له معنى,القادر على اضفاء معنى على ما لا معنى له"[5],والمعنى الذى ينبغى أن يُضفى هُنا هو ما قاله المُرنم[الظُلمة ليست ظُلمة][مز12:!7].
  • وهُنا نقدر أن نصيغ الظُلمة ونُضفى عليها جمالٍ نتخذه من جمال إلهنا,فالظُلمة المقصودة هُنا هيا عدم القدرة على الإلمام بالرؤية التى من خلالها نقدر أن نرى الرب.وهُنا,وهُنا فقط نكون قد صغنا هذه الكلمة بمعنى يكشف لنا ونكتشف معه جمال إلهنا الذى لم ولن نقدر البلوغ إليه,أو بمعنى أدق لانقدر أن   نبلغ المنتهى فيه,إنه الأبدية.ولا مُنتهى لهذه الأبدية التى نحياها فيما بعد,أو قول نحيها  الأن وتمتد حياتنا فيها حتى بعد خروج الروح من جسدنا.
  • إن كان هذا هو القصد,فحسناً [!]بل وحسناً جداً.فقد بلغنا إلى معنى مختلف تماماً,فنحن الأن على أعتاب الحديث عن[الظُلمة النيرة],من ظلمة الجهل إلى ظلمة المعرفة,وهذا هو التصور المُسيطر علىَ .فكُلما إكتشفنا الظُلمة,كُلما تزايد صراخُنا(صلاوتُنا),وكُلما تزايد صِراخُنا(صلاوتُنا),كُلما إنتهت الظُلمة(الجهل)من حياتُنا. ولهذا فالصلاة هيا إنفتاح على المجهول,الولوج فى الظُلمة النيرة,ولهذا فنحن نقول إن الصلاة هيا باب المعرفة,أو قول هي المدخل إلى الغنوسية.
  • ولعل هذا يقودنا إلى نقطة أخطر وأعمق خلال إقترابُنا من العُليقة المُشتعلة[!]وهيا علاقة اللاهوت بالغنوسية. فإن كانت الغنوسية Gnosticismهى "حب المعرفة"[6],فهذا الحُب من أين يبداء؟وإلى أين ينتهى؟وأى معرفة هيا التى يُحبها ويُريِدُها الشخص "الغنوسى"؟. لعل ما دونه القديس يوحنا الحبيب فى[يوحنا17]هو أفضل معنى للغنوسية المسيحية-إن صح هذا التعبير الذى يرفضه البعض-فيقول[هذه هي الحياة الأبدية,أن يعرفوك...]وكلمة معرفةهنا هي γινώσκωσιν,فالغنوسية الحقيقية-وليست الزائفة-هي التى تهدف إلى الوصول إلى معرفة الله .حق معرفة.
  • ومن أغرب المعانى التى نقدر أن نتعرف عليها فى معنى الغنوسية ,إن الغنوسية هى unaware [عدم الإدراك][7],وأظن إن هذا المعنى هو الأقرب والأفضل معنى أى معنى  أخر..ويكون قصد القديس يوحنا هو إن الحياة الأبدية هى حياة عدم الإدراك,والحديث هُنا عن الإدراك الكُلى,وهذا ما لايُمكن أن يحدث,فنحن حالياً نعيش فى الإدراك الجُزئ,وبعد الموت سيظل إدراكُنا جزئ.
  • وهذا الإدراك الذى نسعى إليه هو قائم بالأساس على المُعاملة والتبادل بيننا وبين الثالوث القدوس.وهذا التعامل وهذا التبادل هُما نوعاً من الخبرة ,الخبرة التى يكتسبها الإنسان,ولهذا فنحن نقول:[ ليس هُناك لاهوت خارج نطاق الخبرة,فعلينا أن نتغير لنصير إنساناً جديداً لكى نعرف الله,علينا أن نقترب منه ,ولسنا لاهوتيين إن لم نِسر على طريق الإتحاد بالله,وسبيل المعرفة هو بالضرورة سبيل[التأله]. فهذا هو المصطلح المميز الذى استُخدم فى الفكر اللاهوتى الابائى المدون باليونانية للتعبير عن اعطاء الله ذاته للجنس البشرى بالمسيح وفى الروح القدوس.فالتأله لم يرد حرفياً فى كتابات القديس اثناسيوس الا انه بالتاكيد كان متضمنا للفعل "يؤله "لقد صار انسانا لكى يؤلهنا نحن...[8].
  • وفى هذه الحالة نقدر أن نقول إنه لا مكان ليسوع على منابر الوعظ,ولا ذِكر سيكون له فى أفواه الواعظيين.فسيكون الجميع مُتمسك بالمفهوم الصحيح لشخص الثالوث المُبارك,وهو [الحياة]ستُسد أفواه الوعاظ.ستتحول عِظاتُنا إلى حياة نحياها.وما الحياة سوى الرب يسوع,سيتحول الثالوث من موضوع العظة –مع إن الله ليس موضوع ولا قضية ولا نظرية-سيتحول هذا إلى عظة نحياها قبل أن نذهب لكنيسة لنستمع إليها, وتتحول حياتُنا إلى عظة دائمة.غير محسورة فى جدران الكنيسة ويومٍ فى الأسبوع. فإذا تيقنا مما سبق فلن نعود نطرح الله[كقضية]وموضوع لان الأمر لا يتعلق بالمعرفة فى حد ذاتها.بل فى الإتحاد الصوفى بالله الذى تبقى طبيعته فوق معرفتنا[9].

النعمة معكم

مينا فوزى...


[1] فلاديمير لوسكى:بحث فى اللاهوت الصوفى لكنيسة الشر ق.ص32.
[2] ق.غريغوريوس النيصى: أقدم النصوص المسيحية,حياة موسى النبى أو الكمال فى مجال الفضيلة.ص90.
 [3] المرجع السابق.ً90.
[4] فلاديمير لوسكى:بحث فى اللاهوت الصوفى لكنيسة الشر ق.ص29
[5] الآب فرانسوا فاريون اليسوعي [فرح الإيمان بهجة الحياة ]محاضرات فى اهم القضايا الإيمان المسيحى ص7.
[6] ولا أقصد تلك الطائفة التى حاربتها الكنيسة فى القديم بل أقصد حب المعرفة الإلهية فى ذاته,لقد إستخدم القديس يوحنا الحبيب لفظة[غنوسية]فى شرحه لمعنى الحياة الابدية[راجع يوحنا17]
[7] قاموس Strong'  تحت ترقيم1097

[8] الايمان بالثالوث الفكر اللاهوتى الكتابى للكنيسة الجامعه فى القرون الاولى توماس ف تورانس ص205 .

 [9] بحث فى اللاهوت الصوفى لكنيسة الشرق,فلادمير لوسكى.ص32.